المحاكاة

في ليلة من ليالي أغسطس الحارة وقد بلغت الحرارة أقصاها في الخارج ولكنها لا تهتم فوحدة تكييف الهواء المركزية في منزلها لديها من القوة ما تستطيع به كسر أنف أغسطس هذا وربما فمه أيضا، وبينما تجلس على كرسي فاخر وتضع الساق فوق الساق وبين أصابعها سيجارة من النوع الفاخر وأمامها شاشة تلفاز بعرض الحائط، تلتقط هاتفها النقال الذهبي لتحدث إعلامي قابع في التلفاز يتحدث عن نموذج محاكاة الدولة ويذيع مقتطفات لحكومة المحاكاة هذه ثم يزهو بالعصر الذهبي ويصرخ فرحا من إنجاز تلو الآخر، فهذا كوبري من زجاج، وتلك عاصمة ومباني وأشجار وملاعب جولف والوحدة السكنية بالملايين.
تحدث السيدة المذيع اللامع فتقول: مبروك وتهاني القلب من القلب ووطننا العزيز على صحيح الدرب، ورئيس مفتخر جدا واقتصادنا عظيم، ولينفجر غيظا الحاقد واللئيم، حياتنا أجمل وشمسنا مشرقة وكل احتياجاتنا مجابة وفي المتناول، يا سيدي لا تصدق أصحاب الأفكار الهدامة والمحبطة الذين يتحدثون عن حاجة الناس وفقرهم، يا سيدي الناس تمتلك المال ولكنهم يكنزون ويشتكون، وإلا فقل لي من يسكن كل تلك العمارات الجديدة؟ ومن يشتري في العاصمة الجديدة وحتى إن زادت الأسعار وأعباء الحياة قليلا فلنتحمل، فبناء الأوطان يحتاج الجَلد ونحن لها وهذا حق الوطن علينا.
يسمعها المذيع اللامع مبتسما ابتسامته البلهاء ويتنهد تنهيدة عظيمة ويصيح قائلا: ها هو نموذج الوطنية، سيدة تعشق وطنها وتقف خلف قيادتها وتحتمل من اجل الوطن ومن أجل غد مشرق، يا لعظمة تلك السيدة، وبعد وصلة مديح بينهما وعظيم الشرف المتبادل كون أحدهما حدث الآخر، يشكرها المذيع وتشكره، وتغلق الهاتف ثم تلتقط سيجارتها من جديد وتضعها بين شفتيها، وتضع الساق فوق الساق، وتلتقط حبات من طبق البندق بجوارها ولكنها تلاحظ خادمة المنزل تنظر إليها مبتسمة، تسألها هل هناك شيء؟ لماذا تنظرين إليّ هكذا؟ تجيبها لا شيء سيدتي، لا شيء، فقط كنت أدعو الله.
ثم نظرت إليها وقالت سيدتي هل لي أن أسألك شيئا؟ هل حقا تؤمنين بنموذج المحاكاة هذا؟ إجابتها نعم بكل تأكيد، تجربة عظيمة ورائدة، نظرت الخادمة في عينيها وقالت لها: هل تعلمي بماذا كنت أدعو الله؟ كنت ادعوه أن تعيشي المحاكاة، لا أن تتحدثي عنها فقط، اغتاظت السيدة وانفجرت غضبا قائلة: أيتها اللئيمة الحقودة فهمت ما تقصدين، تريدين أن نتبادل الأماكن، أعيش حياتك وتعيشي حياتي، يا لك من حقوده ناكرة للجميل.
أجابتها الخادمة في هدوء: ليس للأبد لمدة أسبوع واحد فقط، ولا أقول نتبادل الأماكن، فأنا لو جلست مكانك لمدة أسبوع لن استطيع العودة لما افعله الآن، وغالب الأمر سأنهي حياتي بيدي في اليوم التالي لعودتي لحياتي هذه، انا فقط دعوت الله أن تعيشي حياتي لمدة أسبوع، أسبوع واحد فقط، انا اعمل عندك وأتقاضى أجري بالأسبوع وليس لديّ عمل آخر، فلتحاكي حياتي لمدة أسبوع، تحاكي كل التفاصيل من المأكل والملبس والمواصلات والمستشفيات والأمراض وفواتير الماء والكهرباء و....و...والخ، لحسن الحظ كنت قد حدثتك سابقا يا سيدتي عن كل تفاصيل حياتي وانتي تعرفيها جيدا، فحاكي كل التفاصيل في أسبوع، أسبوع واحد، وبعدها حدثي هذا المذيع مرة أخرى.
انفجرت السيدة فيها غضبا وطردتها في الحال. ثم جلست تستريح قليلا لتهدأ فوقع بصرها على قصاصة ورق بجانبها كانت فاتورة مستلزمات المطبخ التي اشترتها الخادمة اليوم، ولأول مره تتوقف وتقرأها بروية، استراحت قليلا على كرسيها الفاخر واستغرقت في نوم عميق، ثم حدث ما لم تتوقعه، رأت في حلم ما دعت الخادمة الله أن يحدث، رأت نفسها مكان الخادمة، عاشت كل التفاصيل، عانت الحاجة وقلة الدخل، عانت قهر الأم حين تعجز عن إجابة ابسط طلبات أطفالها الصغار ، عانت السير بالساعات تحت حرارة شمس أغسطس لتوفر بضع جنيهات من أجل أطفالها، عانت نظرتها لصحن فارغ وهي لا تملك ثمن ما يملأ هذا الصحن لتسد جوع فلذات أكبادها، عانت الطوابير ومزاحمة الناس في الحصول على ابسط مستلزمات الحياه، عانت من أسعار الدواء، عانت ذل الحاجة و قلة الحيلة وبؤس الحياة، كانت تتذوق المرارة في حلقها في كل هذا، وفجأة فاقت من الحلم وهي تصرخ كابوس، كابوس، ومازالت طعم مرارة ما رأت في حلقها، شربت ماء وبسملت وحوقلت ونظرت فوجدت التلفاز أمامها ونفس المذيع مازال يقدم حلقته، التقطت الهاتف وقالت له اصمت ولنصمت جميعا ، فحتى في الأحلام لا نستطيع أن نتحمل حياتهم .
تمت.