المُثقفون ... والأنانيَّة!

من يرمق بعين المُقارنة أحوال الثقافة والمُثقفين في عالمنا العربي بين الماضي والحاضر قد يلحظ بعض الدلالات على ملامح التدهور الإنساني في هذا المجال كغيره من المجالات خلال محطّات الانحطاط، فالمُثقفون الصادقون المُخلصونَ لمبادئ انسانيَّة تتفوّق على طغيان المصالح الشخصية والنوازع البشريَّة الضَّارَّة أقل ممن يتخذون مُسمَّى الثقافة سِتارًا لتحقيق مآرب ملطخة بعار الأنانية، بينما الأنانيون والسلبيون والكسولون يغرقون تلك الأوساط بأكثريتهم، ويجرونها نحو هاويةٍ لا يمكن لمثلهم استيعاب مخاطرها.
الأنانيَّة متمثلة بالإفساد على كل صالحٍ عام أمام الصالح الخاص، اقصاء الآخرين، السعي لتشويه سمعتهم في غيابهم لئلا ينالهم نصيبًا من الخير أو يتذكرهم زميل أو جهة مسؤولة بفرصة من الفرص، احتكار كل فرصة والاستحواذ عليها وبذل الممكن لطرد الآخرين وإخماد أصوات أسمائهم لأنهم من وجهة نظر مرتكب تلك الأفعال "ليسوا قد المقام" لأي سبب، إثارة القلاقِل والصراعات والمشاحنات مع القديم والجديد والكبير والصغير، اغتياب الآخرين بهدف التدمير ونقل الأخبار الضارَّة مع قدرٍ هائلٍ من البهارات الفتَّاكة لبث السموم هنا وهناك من تحت الطاولة لأن الجبناء يتبعون سبيل الجراثيم غير المرئية في تحركاتها لتحقيق أهدافهم غير الأخلاقيَّة، كلها تصرفات تُعزز من تفاقم التشرذم الذي بدوره يؤثر سلبًا على أي مشروع ثقافي مهما كان جادًا ويقوده للهلاك عاجلاً أم آجلاً.
أكثر المثقفين هذه الأيَّام يريدون الأخذ ثم الأخذ ثم الأخذ دون عطاء، يطربون لكلمة مديح تغرد باسم نصٍ كتبوه بينما لا يشيرون بكلمة طيبة لمُنجزٍ أبدعه مثقف آخر، يتواصلون مع فلان وفلتان بحثًا عن وساطة توصلهم إلى هنا أو هناك دون تقديم مقابل أو – على الأقل- بادرة ولاء وتقدير صريحة، عدا عن بعض الاضطرابات النفسية التي تجعلهم يتصرفون كمن يستحق البقاء على الساحة بمفرده دون سواه لأن كل من عداه لا يستحق!
التفاعلات الثقافية تتطلب تفاعلاتٍ بشريَّة لتتطور وتزدهر، والتفاعلات البشرية البنَّاء لا يمكن أن تحقق أهدافها المرجوة دون حدٍ مقبول من العلاقات الطيبة بين البشر المنتمين لحلقة التفاعلات تلك، ومادام الناس لا يرتاحون للمغرورين ويتجنبون الأنانيين ومثيري الأزمات فلا عجب أن تكون نتيجة تلك المعادلة عدم التعاون مع هذا النوع من لأشخاص الذين ينهارون مُتباكين لأن الآخرين لم يعودوا يتعاونون معهم!
لم يكد يبقى من المؤسسات الثقافية الصامدة صمودًا جادًا في عالمنا العربي إلا ما ندر، وكلها مهددة بالانطفاء بين عشية أو ضحاها كأي كيانٍ لا يخدم طموحات الرأسماليَّة وتعملقها في عصرنا الحاضر، ولا يمكن إنقاذها إلا بإنقاذ الثقافة التي يتغذى استمرارها على تعاون المغرمين بها والمؤمنين بآثارها وقيمتها العليا في التغيير والارتقاء، وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا من شراذم اللؤماء والأنانيين والمفسدين والمتقاتلين كأجهل الجهلاء ثم يتوقعون أن يستتب لهم أمر التغذي على خيراتها كالعوالِق!