دولا أندراوس تكتب: إكذب لكي نصدقك
الناس في مجتمعاتنا يخيفهم الصدق. يحسنون الظن بالمنافقين والمدعين في حين يجلدون الصادقين الواضحين المتسقين مع أنفسهم. يكافئون الخداع والتلون والتظاهر بمثاليات هي محض اختراعهم وينبذون من يرفضها أو يحيد عنها. يمتدحون عاهرة تتخفى في حجاب ويصلبون عاشقة أهدت غشاء بكارتها لحبيب. يمجدون مختلسي المال العام ويجعلون منهم شخصيات بارزة ومثالية في حين يصنفون الأمناء كلصوص وفاسدين. يقبلون أيدي الشيوخ ورجال الدين ويطيعونهم طاعة عمياء متعامين عن مدي إنتهازية هؤلاء واستخدامهم للدين كوسيلة للتربح وبسط النفوذ. يغضون البصر عن خطايا الأغنياء وفحشهم ويفحصون بنظارة معظمة هفوات الفقراء وزلاتهم.
الناس في مجتمعاتنا يهتمون بالمظهر دون الجوهر ويشجعون ثقافة النفاق مخترعين ثقافة أخلاقية جديدة تقلب مفاهيم القيم رأسا على عقب. فمفهوم الشرف مثلاً لم يعد متمثلاً في أن يقول المرء ما يفعل، وأن يفي بما يعد، وأن يجاهر بما يؤمن به، وأن يساند المستضعفين، وأن يحفظ الأمانة، وأن يكون على خلق، وأن يعف عن فعل الشر، بل انحصر في فكرة واحدة لا يتعداها ولا تخصه ألا وهي قدرته على ضبط سلوك نسائه. التدين أيضاً غابت عنه روحانياته ولم يعد ممثلاً في هذه العلاقة السامية التي تربط الانسان بخالقه والتي من شأنها أن تنير النفس وتطهر الروح وترقى بالسلوكيات، بل أصبح مشروعاً سياسياً ممولاً من جهات ومنظمات تسعى بشراسة لان تكون طرفاً في صراع لا نهاية له على السلطة وسدة الحكم. أصبح المتدين يفتقد ابسط مقومات الأخلاق الدينية وانحصر تدينه في المظهر الشكلي وانجرف وراء سلوكيات تعكس الكثير من أشكال العنف والكراهية، أو صار يتباهى بتفوقه الديني ويفاخر بممارسة الشعائر والطقوس الدينية ويكثر من الكلام عن العيب والحلال والحرام وكأن تشدقه بالأخلاقيات يعني بالضرورة امتلاكه لها.
في مجتمعنا يسحبون منك الجرأة ويدربونك تدريجياً على الجبن والخنوع حتى تخضع طواعية لما هو سائد وتفقد القدرة على إتخاذ مواقف واضحة وحاسمة حيال ما تعتنقه خاصة إذا كان مخالفاً لما يعتنقه المجموع. فتجد نفسك مدافعاً عن أمور لست مقتنعا بها تماماً بغرض تحقيق التوافق المجتمعي والشعور بالانتماء.
شاهدت مؤخراً محاكمة هزلية اقيمت للممثلة منى هلا في برنامج “البيت بيتك” حيث استضافها الإعلاميان رامي رضوان وإنجي أنور على قناة “تِن”، وعرضا أثناء الحلقة العديد من الصور الشخصية التي وضعتها منى على موقع انستجرام، معتبرين إياها صورا لا تناسب التقاليد الشرقية. وباعتبارهما حماة الفضيلة وحراس العقيدة ورعاة الأخلاق، جلسا قبالتها في استعلاء منفر وكبر يكيلان لها الاتهامات فيما يختص بسلوكها "الفاضح" من وجهة نظرهما. هذان الاعلاميان هما نموذج لما أصبح عليه حال معظمنا، حيث سقطنا في فخ الواقعية الساذجة والاعتقاد بأننا نرى الواقع تماما كما هو بموضوعية ودون تحيز؛ على أساس أن الوقائع واضحة للجميع وأن العقلاء فقط سوف يتفقون معنا ومن يخالفنا هم الجهلاء الأغبياء. سطحية وضحالة في التفكير تساهم في ترسيخ جو عدائي تجاه المخالف وتدفع إلى استعدائه وإقصائه والتشدد في التعامل معه. ولأننا نتاج لهذه الثقافة المجتمعية الموبوءة، فلا عجب من أننا محاطون بهذا الكم الهائل من الشخصيات المتناقضة الهشة مزدوجة المعايير. لذلك كن نفسك المختلفة فالعالم ليس بحاجة إلى المزيد من النسخ المشوهة.