دردشة…بالعربي الفصيح:
سكتنا له…دخل بحماره!
"سكتنا له ... دخل بحماره" هو مثل شعبي معروف يبين أن التساهل أحياناً قد يحث على استباحة التعدي! وهناك مصطلح بالعبرية يوصف هذا السلوك ويدعى "خُتزپا"، وهي كلمة إن أردت ترجمتها بالعربية فسترادفها "الوقاحة"؛ لكن في رأيي المتواضع أن المعنى الحقيقي للخُتزپا ليس الوقاحة فحسب، لكن هو "التمادي في الوقاحة"!
قد تعرفت على كلمة "خُتزپا" بالصدفة عن طريق أحد معارفي المثقفين المُلمين بعدة لغات، من ضمنها العبرية؛ فشرح لي المعنى بأسلوب جذاب حين دعاني أن أتخيل نفسي واقفاً في الأوتوبيس بجانب شخص ما، ولم يلبث هذا الشخص أن داس على قدمي برفق شديد! فلم يزعجني الأمر كثيراً فلم أهتم بتنبيهه! أما هو فقد استمر في دعس قدمي أكثر لكن بشكل طفيف، ولحسن أخلاقي ورحب صدري وجدت أن الأمر مازال لا يستحق التنبيه! أما هو فلم يتوقف، بل تمادى فيما هو فاعله أكثر فأكثر، مما لم يدع مجالاً للشك أنه مدرك تماماً ويتعمد إزعاجي! وقتها بإمكاني سحب قدمي من تحته في هدوء، أو أن أقوم بمواجهته وعندها قد يتأسف ويدعي أنها دون عمد! وهذه هي الخُتزپا في أبسط معانيها!
مما سبق، قد تتوقع أنني سأناقش تفشي الوقاحة الإسرائيلية في ظل ما هو يحدث سياسياً اليوم، لكن يؤسفني أن أجزم أني لن أتحدث عن الوقاحة الإسرائيلية ولا عن الوقاحة الأمريكية ولا عن أية وقاحة خارجية! ولماذا أتحدث عن وقاحة الخارج ونحن نحظى بوقاحة داخلية وفيرة؟! فسياسة الخُتزپا منتشرة جداً في بلادنا أيضاً مع الأسف!
يحضرني في هذا الشأن موقف تعرضت له في القرية الفرعونيّة بالجيزة، حيث التقطت القرية صور فوتوغرافية لي ولعائلتي بالزي الفرعوني هناك، وكنا سنستلمها في نهاية الرحلة! وفعلاً، بعد أن انتهينا من التجول داخل القرية ذهبنا لاستلام الصور لنجدها قد طبعت بخطوط عرضية باهتة تشير إلى أن حبر الطباعة على وشك النفاذ! ومع هذا، لم يستح المصور مطلقاً أن يقدمها لي بهذا الشكل طالباً الثمن! أما أنا فظللت أنظر إلى الصور لمدة دقيقة تقريباً بصمت لأستوعب الموقف، وبعدها قلت له:
- ايه دا؟
- الصور حضرتك!!
- ما أنا عارف بس ليه عاملة كدة؟!
- اه تقصد الخطوط دي؟
- ايوة!!
- أصل الحبر اللي في "البرنتر" قرب يخلص!
فنظرت له في غاية العجب وقلت:
- طب وأنا مالي؟!
- نعم يا فندم؟!
- أنا مالي أنا إذا الحبر خلص ولا قرب يخلص؟! أنا باشتري صورة يبقى لازم تديها لي أحسن حاجة!
- تمام يا فندم، نعيد طباعتها تاني بشكل أحسن، مفيش مشاكل!!
- انت المفروض تعمل كدة من غير ما اقولك أصلاً!!!
- حاضر يا فندم…تمام…ثواني وتبقى جاهزة!
المصور في الحوار أعلاه أراد أن يتفادى إعادة طباعة الصور من جديد ليوفر بعض الجنيهات، فقرر أن يجرب حظه مع الزبون، فإذا كان الزبون متساهلاً فقد نجح هو في خطته الاقتصادية الرخيصة، وان لم يكن فكفاه شرف المحاولة!
وفي موقف آخر، ذهبت أنا والعائلة إلى مطعم في منتجع سياحي بالغردقة واشتهينا أكل حمام محشي كما هو مدون في قائمة الطعام باللغتين العربية والإنجليزية! وعندما وصل الطعام وجدناه سماناً محشياً وليس حماماً (وهناك فرق كبير) فقلنا للنادل أن هذا ليس بطلبنا، فجاء رئيسه في التو وقال:
- خير يا فندم…فيه حاجة؟
- أيوة احنا طلبنا حمام محشي، ودا سمان مش حمام!
- لا يا فندم ما هو سمان مظبوط مفيش حمام!!
- ايوة بس أنا طالب حمام من المانيو!!! حمام يعني pigeon بس سمان يعني quail!
- ايوة يا فندم طبعاً عارف ان سمان يعني quail…بس الأيام دي صعب قوي إني اجيب حمام…حضرتك عارف جوز الحمام يكلفني كام عشان اروح اجيبه من السوق؟!
وبنفس التعجب والنفور أجبته:
- و أنا مالي بالموضوع دا؟! أنا ماليش دعوة يكلفك كام!!! انت كاتب حمام في المنيو…فانا طلبت حمام!! عايز تبيع سمان اكتب سمان!!!
- حقك علينا يا فندم …بس مفيش حمام والله، ممكن تطلب حاجة تانية لو حبيت!
وهذا مثل آخر لتمادي الوقاحة بافتراض جهل الزبون لما يقدم له! فإن كان الزبون لا يعرف الفرق بين الحمام والسمان فخير وبركة، وإن كان يعلم فنعتذر ببساطة وينتهي الأمر.
وفي الموقفين، لم يهتم الموظف بسمعة العمل أو المكان أو بجودة خدمة العملاء وكله في سبيل الكسب الرخيص!
وزد على هذين الحوارين أعلاه ملايين المواقف الأخرى المشابهة التي تدل على أن القاعدة العامة في التعاملات المصرية تفترض طيبة ومحدودية إمكانيات المواطن المصري أو عدم معرفته ولهذا تعطي المجتمع الحق في أن يتمادى في وقاحته تجاهه!
هذا السلوك للأسف يتبع في الشارع وفي العمل وفي الحكومات والمؤسسات الدينية للأسف! ليس هناك أسوأ من التمادي في استهانة كينونة وذكاء الآخر! لكن قد تأتي ساعة يثور فيها هذا الشخص الصبور الخلوق ويبدأ في رفض ومحاربة هذا التمادي المفرط في الوقاحة، وعندها لن يفيد الندم ولن تنفع الأعذار؛ فلن يكون هناك سكوت بعدها، وسيمنع أيضاً دخول الحمير!