أنا طفل وعمري خمسة وثمانون عاماً!!
تحت ضوء المصباح الخافت المعلق فوق أحد الأرفف، بالكاد رأيت عروسة خديجة على الأرض وقد فقدت إحدى ذراعيها، وبعض من ألعاب سمر مبعثرة في كل مكان، وهذا عُقد رضوى ملقى على الأرض، وقد انفرطت بعض من حباته، وقليل من الدم فوق إحدى الكراسات..
صمت رهيب يغلف المكان، يقطعه بين الحين والآخر أصوات لجلبة في الخارج، ووقع أقدام تركض بشكل عشوائي مرتبك .. يهدأ كل شئ للحظات، لدقائق، لساعة، لست أعلم فقد بدأ إحساسي بالزمن ينعدم، ثم يعود الضجيج أو ما يشبه العراك وما يصاحبه من صراخ وعويل، أسمعه قريبا احيانا، أو يتردد صداه من بعيد أحيانا أخرى
أدركت أن ثمة حدث جلل تدور رحاه في الخارج، واختبرت باب الدار، فوجدت أن هناك من أوصده بعناية ليحمني من خطر ما لا أعرف كنهه بعد .. تيقنت أن أبي..أو أمي ، قد راهنا على ذكائي وحسن تصرفي، حين وجدتهما وقد تركا لي زجاجة من الماء، مع قطعة من الخبز، وقليل من الجبن وحبات الزيتون.. شربت القليل من الماء، لكن القلق والترقب.. والوحدة، افقدوني شهيتي تماما، فلم تمتد يداي للطعام
صرت اتحرك بخطوات مترددة في أرجاء الدار، حتى تذكرت فجأة ذلك الثقب الذي صنعته أنا وصديقي أنس بإحدى الغرف، وأخفيناه عن أعين الجميع، حتى يتسنى لنا رؤية الشارع خلسة، ومراقبة باقي اصدقائنا سراً ونحن نضحك حين نتابعهم وهم يبحثون عنا دون جدوى ..
دخلت الى الغرفة وزحزحت بحرص أحد المقاعد، ثم بدأت بإزالة حجرين من الجدار، ثم ألقيت نظرة حذرة من خلال الثقب.. ويا ليتني ما فعلت .. ليتني بقيت في ظلام المنزل انتظر المدد، أو بقيت في انتظار عودة أبي، يفتح علي الباب فأهرول نحوه مرتميا في رحابة حضنه، فينتهي هذا الكابوس للأبد
سمعت رضيعاً يبكي دون توقف، ولم أكن أعرف من أين يأتي الصوت، وجدت النيران تلتهم منزل أنس، وطفلا في نفس عمري ملقى على الأرض بلا حراك .. لم أستطع تمييز ملامح وجهه من كثرة الدماء التي تغطيه، لكن ما أمعنت النظر من خلال الثقب الضيق، حتى تأكدت من ألوان القميص.. إنه قميص أنس.. ماذا حل به وأين أبيه العم عبد الله؟ لماذا يترك صديقي جريحاً هكذا وملقى على الطرقات؟ ..هل مات أنس ؟ هل سقط عليه حجر؟ أم افترسه ذئب، من الذئاب التي يخيفونا بها كي يحذروننا من اللعب بعيدا عن الضيعة؟
استمر بكاء الرضيع الجائع، ينبئني بغياب أمه أو أحد من ذويه كي يهدئ من روعه.. ارتعدت فرائسي، وتراجعت خطوتين وانا أرقب وصول ثلاثة رجال يرتدوا زيا عسكريا شبيها بزي الإنجليز، يسوقون أمامهم عم ضياء البقال، يضربونه ضربا مبرحا بكعوب بندقياتهم ..
سألت نفسي متعجباً، ماذا فعل لهم هذا المسكين ليستحق هذا العقاب .. كان رجلا ودودا طيبا.. كان يزجرنا أحيانا إن صنعنا جلبة أمامه، أو عبرت كرتنا داخل الدكان، فأسقطت جزءًا من بضاعته.. كان يتوعدنا كل مرة وهو يلوح بالسكين ويغرزه برفق في الكرة، قبل أن تمر دقائق، فيستجب سريعا لتوسلاتنا وتعهداتنا بأن نلعب بعيدا، فيقذف لنا بالكرة مبتسماً مع بعض من الحلوى..
سمعتهم يصرخون في وجهه بكلمات عربية ركيكة.. بدا أنهم يستجوبونه أو يحاولون استنطاقه بأية معلومات، ثم يتناوبون على ضربه ولطمه، بمرح مع ضحكات متقطعة تتناقض مع بشاعة ما يفعلونه، ثم دفعوه بقوة إلى الجدار وأمروه بالركوع مديراً لهم ظهره ويداه فوق رأسه.. و... وأطلقوا النار .. أطلقوها بكرم وسخاء.. وتلذذ.. ثم هموا بالمغادرة.. ولكن .. رأيت أحدهم وكأنه ينظر إلى مباشرة من بعيد، ثم بدأ التحرك نحوي ببطء..
جحظت عيناي وارتعدت أوصالي، وتصبب عرقي غزيرا يبلل قميصي، تماما كما ابتل سروالي من الرعب.. اقترب أكثر وتقدم بثبات نحوي، فارتفعت دقات قلبي حتى بات صوتها أعلى من صراخ الرضيع..
أعدت الحجرين لموضعهما بيدين مرتعشتين، ووضعت المقعد مكانه، وتراجعت أجلس القرفصاء مرتجفا عند الحائط المقابل..
** جزء من قصة قديمة.. جديدة.. متكررة !! وللحديث بقية.....