عبد المسيح يوسف يكتب: بين أمطار الأسكندرية وثلوج مونتريال
لقد جفت الأقلام، وتعبت لوحة مفاتيح لوحات الكمبيوتر، ونبحت الأصوات، من الحديث عن فساد المحليات، والنتيجة دائما .. استمرار حالات الفساد. متى يجد الشعب نتائج ملموسة لمواجهة الفساد في المجتمع المحلي؟ أم أن الفساد المحلي تحول لثقافة مجتمع، مثل الماء والهواء، لا يستطيع الناس الإستغناء عنها.
الناس فقدت الأمل في إصلاح المحليات، ودائما الفساد هو سيد الموقف، ولكي تنجز أى مصلحة، يجب أن "تشخلل" تدفع الرشاوي والإكراميات.
حالة من الحسرة والغضب تسيطر على الشارع السكندري والمصري، بسبب ما تعرضت له مدينة الثغر جراء سقوط الأمطار، وغرق المدينة بالكامل من ناحية، وتردي حالة البنية الأساسية في المدينة الساحلية، خاصة خطوط الصرف الصحي، التي أغرقت المدينة مع مياه الأمطار من ناحية ثانية.
الأسكندرية، حالة معبرة جدا عن فساد كل شئ –تقريبا- في مصر، خاصة قطاع المحليات. فالأسكندرية، التي كانت المصيف الأول للمصريين، يعرف الجميع أنها مدينة ساحلية، وتتعرض لموجات مناخية باردة، ونوات وأمطار كثيفة، ورغم كل هذا يبقي تخطيطها متخلفا.
لا يجب أن نستغرب كل هذه الاخفاقات في العاصمة الثانية لمصر، فكل محافظ جديد يأتي للأسكندرية، يهتم فقط بتحسين الصورة الظاهرة والقشور، دون أن يمس جوهر العمل البنيوي في المدينة، التي عرفت منذ فترة أكبر عدد من حالات سقوط العمارات والبنايات بسبب فساد المحليات.
لماذا يجب أن يتحرك رئيس الجمهورية في كل مرة لحل كل مشكلة في مدينة أو إقليم مصري؟ ماذا يفعل كبار الموظفين المحليين؟ هنا، الرقابة الإدارية يقع عليها مسؤولية كبيرة في كشف الفساد المستشري في قطاع المحليات، والإتاوات المقننة، التي يفرضونها علي المواطنين، الصالحين منهم والفسادين، خاصة وأن هناك تسعيرة شبه معتمدة لهذا الفساد المحلي.
عندما تم اختيار محافظ الأسكندرية، الذي استقال أو أقيل، لا فرق كبير، هاني المسيري، المصري الأميركي، تغنت بعض وسائل الإعلام التافهة، بوسامته، والوشوم التي يرسمها علي جسمه، وحضور زوجته للاجتماعات الرسمية له، دون أن تهتم بتقييم أدائه، والذي ثبت أنه مثل نوعية وسائل الإعلام، التي تحدثت عن وسامته، بأن أدائه كان تافها ومخيبا للآمال.
هذا الاختيار السيئ، يجب أن يتحمل مسؤوليته وزير التنمية أو الإدارة المحلية. فهذه الاختيارات لا تخضع لاختيارات موضوعية ومعايير أداء، ولكن تخضع لدوائر علاقات أهل الثقة والمعرفة، وهو ما يعني غياب أي رؤية أو خطة للتخطيط والتطوير الإداري الناجح.
لسنا في حاجة لعقد أى مقارنة بين ما يحدث في الأسكندرية، عروس البحر المتوسط، التي تركها الأسكندر الأكبر أمانة في عنقنا، ولم نصن هذه الأمانة، وبين مختلف الدول الغربية، ومنها مونتريال، إحدى أكبر المدن الكندية، وطرق التخطيط فيها، ومستوى الكفاءة والأداء لعمال وموظفي المحليات.
فكندا بصفة عامة، ومونتريال بصفة محددة تتعرض لموجات من التغير المناخي وسقوط الثليج، ووصول درجات الحرارة لأكثر من 48 درجة تحت خط الصفر، لفترات طويلة ومتواصلة علي مدار شهور الشتاء. ورغم ذلك، تجد أن هناك شبكة من خطوط الصرف، أشبه بالمدينة تحت المدينة، ذات الكفاءة العالية من الأداء، بل وعلى مستوى درجات من التدفئة، حتى تستطيع التخلص من الثلوج لتتحول إلى مياه تنساب في خطوط الصرف تحت طرق المدينة.
عمال المحليات في مونتريال وبقية المدن، يقضون الليل كله، يعملون علي تنظيف الطرقات من الثلوج المنهمرة بغزارة من السماء، في سيارات نقل كبيرة الحجم، وتقوم سيارات أصغر، برش الملح من نوعيات مخصصة، علي الأرضفة وفي طرقات الشوراع، حتى لا يسقط الناس، لأن للإنسان قيمة كبيرة، فهو محور الكون هنا.
كل هذا العمل الجبار يتم ما بين منتصف الليل وحتى فجر اليوم التالي، ليستيقظ الناس، ليبدأوا يومهم ما بين الخامسة والسادسة صباحا، وكل شئ مجهز ليصلوا إلى مقار عملهم دون عقبات ضخمة.
نعم الطبيعة جبارة، لكن عقل الإنسان المجتهد والذكي، الإنسان غير الفاسد، نجح في التعامل معها وتطويعها، لدرجة تجعلك من كثرة الثلج علي جنبات الطرق أن تشغر علي مستوى الدعابة –بأنك في الجنة- لأن كل شيئ حولك يكتسي باللون الأبيض، رغم قسوة البرودة ودرجات الحرارة المنخفضة، لكن المدينة بكل سلطاتها المحلية تحت أمر الإنسان في كندا ومونتريال وبقية المدن الكندية.
فلو قطعت الكهرباء أو التدفئة لأكثر من ساعة، وهذا نادرا ما يحدث في الشتاء لاعتبار الصيانة، فإنك تتصل برقم الطوارئ هنا، وهو 911، ليطلبوا منك إما الذهاب إلى أحد بيوت أصدقائك للتدفئة وحماية حياتك وحياة أسرتك، أو الذهاب لأماكن مخصصة تتبع الأحياء والمحليات هنا، حتى تنتهي شركة الكهرباء أو الغاز من عمل الصيانة اللازمة في أسرع وقت ممكن، وتتواجد عناصر من الشرطة هنا للتأكد من أن كل الأمور تسير علي أتم الأحوال، دون أن تعطي أى موظف أى رشوة!!
فارق كبير بين التخطيط في مدينة كالأسكندرية، ومدينة كمونتريال أو تورنتو أو أوتاوا. فالفارق ليس في المدينة في حد ذاتها، ولكنه الفارق بين إنسان، ذو ثقافة مختلفة يدير مدينة الأسكندرية بالفساد، وإنسان آخر يدير مدينة مونتريال أو تورنتو أو أوتاوا ويعلم أن هناك قانون كالسيف علي رقبته، وهذا القانون ينفذ ويفعل بناء على رد فعل السكان.
ولذا يجب أن يكون للإنسان قيمة في المدن المصرية، وأن يكون صوته الجمعي مسموعا لدى صانع القرار. ليس معنى ذلك أن المدن الغربية، هي المدن الفاضلة، لا .. هناك حالات للفساد خاصة في المناقصات في مجال المقاولات، ولكن هنا قانون قوي وحاسم، لا أحد فوقه أو أكبر منه، ولا يمكن "الطلسمة عليه" كما يحدث في مصر في حالات فساد عديدة.
نحن في حاجة ليكون للمواطن المصري قيمة، وأن يخضع صانع القرار والمحليات للقانون بقوة، وأن تقوم الرقابة الإدارية برصد أداء المحليات المصرية المنتشر فيها الفساد بقوة.
لقد فاضت كأس المحليات بالفساد، ولا تزال، ولا نجد قرار حاسما لعلاج هذا الفساد.