عبد المسيح يوسف يكتب: ”مصرنة” مصر وعلم السعودية
كانت فضيحة في الإعلام العالمي، حمل أحد أعضاء البعثة الأوليمبية المصرية في ريو لعلم المملكة العربية السعودية، في تعبير واضح عن عدم الانتماء والاعتزاز بالهوية المصرية من جانب هذا اللاعب، الذي كشفت وسائل الإعلام بعد ذلك أنه يعمل في المؤسسة العسكرية. ثم اختلفت روايايته ما بين انه وجد علم السعودية وعليه لفظة الجلالة الله، علي الأرض ولم يرغب في يتركه علي الأرض، ورواية ثانية بأنه تبادل العلم مع لاعب من البعثة السعودية.
هذه الحادثة بليغة الدلالة في جوهرها، ويجب أن تضرب جرس إنذار حول صراعات دوائر الهوية في مصر. فمنذ أن كنا تلاميذ وطلبة ونحن نتعلم أن مصر تقع في مناطق هوية متنوعة (مصرية، فرعونية، إسلامية، أفريقية، عربية، شرق أوسطية، متوسطية، وغيرها وغيرها). والمثير للدهشة أن كل هذه الدوائر لا تمثل أى تهديد لمصر، باستثناء دائرة الهوية الوهابية، الممسوحة من الدائرة الإسلامية، بالمسلم المصري، لديه الماليزي المسلم أهم وأبقي وأفضل من المصري القبطي، وكما أن لديه السعودية أبقي وأهم من مصر، باعتبار أن السعودية في مخلية وذهن هؤلاء هي الطريق إلى الجنة!!
خلال الخمسين عاما الآخيرة، منذ عهد السادات مرورا بعهد مبارك، وانشغل كل منهما بالسلطة وسبل الحفاظ عليها، وبسبب الفقر، والهجرة الوظيفية لدول الخليج، وتحديدا السعودية، تفشت بين المصريين أنماط سعودية بدوية وجاهلية في الفكر والسلوك، ونتج عن هذا كله تزايد الحب والانتماء للسعودية أكثر من مصر لدي قطاعات يعتد بها. ولعبت الأموال السعودية دورا محوريا في تمويل الجماعات السلفية المتنوعة والعديدة في مصر، لنشر الفكر الوهابي، الداعم لاستمرار وبقاء أسرة آل سعود، فالسعودية لمن يعرف أو لا يعرف ليست دولة بالمعني الحديث، بل هي عائلة اقتنصت واغتصبت الحكم من عائلة سابقة عليها هي آل رشيد.
وعلي الرغم من حالة السخط العام لدى قطاع عرض من المصريين، إلا أن هؤلاء الساخطين يجب أن يدركوا أن ملايين المصريين ممن ينتمون فكريا وسلوكيا للسلفية والوهابية يرون أن ما فعله المصري حامل السعودية، عمل وطني وبطولي وديني عظيم!!
الأحوال لن تتغير، وكشفت ثورتي يناير ويونيه كم الكراهية والحقد الدفين في نفوس ملايين المصريين تجاه بعضهم البعض، لماذا تتحدثون فقط عن الحرية والديمقراطية، ولا تتحدثون عن أنساق القيم والسلوكيات التي تفجرت وافتضحت بعد الثورتين. هل يصدق أحد أن أى شخص ينتمي للأخوان أو غيرهم من الجماعات الدينية الإسلامية المتضررة من ثورة يونيه يتمني الخراب لمصر!!
مصر أم الدنيا، التي احتضنت الجميع، وعلمت الجميع، ورغم كثرة سكانها ومحدودية مواردها لم تبخل على أحد، رغم السارقين الذين نهبوا ثرواتها وكان آخرهم حسين سالم!!
والحالة المزرية نسقيا وقيميا التي تعاني منها مصر – حفظها الله من شر بعض ابنائها- تعود للنظام التعليمي الفاشل، والمتنازع عليه بين هيمنة السلفيين والاخوان، وبين الإثنين يا قلبي لا تحزن، نشر لقيم وسلوكيات الجاهلية والتخلف والرجعية والانتماء لدوائر ضد الهوية المصرية.
مصر لن تعود قريبا، مصر الخمسينات وبداية الستينيات، مصر الليبرالية المدنية، مصر المصرية، إلا بعد عشرين أو خمسين عاما، عندما نغير القيم الوهابية والاخوانية الحالية المهيمنة علي قطاعات واسعة من الشعب المصري الفقير والأمي (الجاهل تعليميا).
لا تندهشوا الشخص الذي رفع علم السعودية، يوجد من عينته ملايين علي استعداد لرفع علم السعودية قبل علم مصر، رغم كونه مصريا أبا عن جد، لكن عقله ونسق قيمه وهابي سلفي يدين بالولاء والانتماء لعائلة آل سعود، التي تمثل الإسلام الصحيح من وجهة نظره، والتي تعد طريقه إلى الثراء في الحياة والجنة في الآخرة!
المصريون هم فعلوا هذا في أنفسهم، عندما تركوا السعودية وعملاءها يهيمون علي الإعلام والتعليم، أهم سلاحين للتأثير علي سلوكيات أى شعب. وبالمناسبة هناك شخصيات عامة علي استعداد لرفع علم السعودية مثلما فعل عضو الفريق الأوليمبي المصري، ولكن هذه الشخصيات شخصية في علاقتها المصلحية مع المملكة وأحمد القطان سفير الوهابية في مصر.
ندعو الله، ألا يكون الوقت متأخرا، وأن يستطيع المصريون الشرفاء، إعادة هيكلة النظام التعليمي الفاشل، ليكون نظاما مصريا خالصا ووطنيا، يبث قيم الولاء والانتماء لمصر، ويخاطب الفقراء ومحدودي التعليم ويوضح لهم أن دخول الجنة يكون بالأعمال الصالحة والحسنة وليس عن طريق عائلة أل سعود، لأنه كان من الممكن أن تكون عائلة آل رشيد هي الحاكمة لهذه المنطقة الجغرافية من العالم، التي توجد بها الأماكن المقدسة الإسلامية. ومن ثم فعائلة آل سعود لا تمتلك أى توكيل للبشر لدخول الجنة، لكن أعمالهم الحسنة وسلوكياتهم الراقية هي السبيل إلى هذا.
من سنوات الرئيس المؤمن!! السادات، ومصر تسير في أحضان الإسلاميين، والنتائج كما يري الجميع كارثية. استمر الاخوان يجاهدون ويبذلون الغالي والثمين لتضليل الشعب علي مدار 80 عاما بأنهم "بتوع ربنا والدين" و"جربونا نحكم بشرع الله"، وبعد مرور أقل من 12 شهرا، كره حكمهم الشعب وثار عليهم وتخلص منهم بدعم من المؤسسة الوطنية المصرية الجيش المصري.
هل ننتظر أن يقوم ويظهر فريق قوي ووطني من الفلاسفة والمفكرين والشخصيات العامة المصرية، يدعو إلى "مصرنة" التعليم والإعلام، مثلما تفعل دول الخليج في "توطين" الوظائف بعد أن اصبحت مسألة أمن وطني بالنسبة لهم، لاستعادة الانتماء لمصر، على أن يدعم هذا التيار والحركة الرئيس السيسي، لتكون هناك ثمار خلال السنوات العشر القادمة، نستعيد من خلالها انتماء كل المصريين لمصر، مصر فقط، أم الدنيا. أم أن أموال السعودية التي زكمت الأنوف، سدت أيضا الأفواه للدفاع عن الهوية المصرية، وغرسها في الأجيال القادمة؟