دولا أندراوس تكتب: مقال متناثر ومبعثر تماما كمشاعري
ضباط الأمن يدخنون تحت لافتة ممنوع التدخين بالمطار، أبنية مغبرة تتحدث إلي بلغة حميمة أتقنها دون أن أتذكر بالضبط متى تعلمتها، شوارع متعرجة تصطخب فقط بعد الواحدة ظهرا، أرصفة تتحدى بارتفاعها العجائز والعاجزين وتقر بذنب صفقة فاسدة. قلوب كالورود متناثرة في عقلي وروحي بدد لقاؤهم اعواما طويلة قضيتها في غربة فكأنها لم تكن.
تفاصيل كثيرة كثيرة تصدمك فجاجتها إذ تقبل وتعلق بذاكرتك حنانا وحنينا إذ تغادر. اصطحبتني إحدى الوردات إلى مبنى السجل المدني بالعباسية لاستخراج بطاقة رقم قومي. فردت أوراقي المتهرئة أمام الموظف المختص الذي نفث دخان سيجارته في وجهي وهو يرميني بالمشكلة دون أن يطرح معها حلا، اسمك ساقط قيد يبدو أن بياناتك احترقت مع ما احترق وضاع وقت الثورة. لم أكن أشعر بالرغبة في حل أي الغاز لكنني شعرت بالفخر لارتباط اسمي بالثورة وسعدت لمساهمتي فيها بهويتي ولو بغير تعمد وسألته عما يجب علي فعله. سرد الرجل خطوات بدت لي مستحيلة اختزلها بعد طلوع ونزول ودخول وخروج وشرب شاي واكراميات وتراجم ومستخرجات وطوابع وأختام ومحايلة وتحايل، توقيع واحد لرجل مهم. شكرته بإسراف واع للمعاناة التي جنبني إياها وغادرت مكتبه بقطعة شوكولاتة في يدي وطعم امتنان حلو في فمي.
في الصباح التالي، وبعد ليلة عصيبة قضيتها أصارع البرد وتلاوات قرآنية رتيبة صادرة عن جامع مجاور فرضت نفسها علي وحرمتني النوم، قررت التمشية لبيتنا القديم. لاح لخيالي المتشوق شارعنا البالي ذات فجر بارد منعش وانا أقطعه مع أختي في طريقنا إلى المدرسة. مشاعر حنين مكبوتة دمرتها في مهدها عدم قدرتي على عبور الشارع.. بذلت عدة محاولات بائسة أضحكت المارة وبائع الكشك المجاور، فعدت أدراجي خائبة.
في معرض الكتاب اكتسبت الأسماء العزيزة وجوها ثلاثية الابعاد من خلال لقاءات دافئة طال انتظارها.. عوضني ذلك عن الاحباط الذي أصابني جراء ما لاحظته من تراجع للاعمال الأدبية والفنية وتواريها وراء الكتب الدينية التي تصدرت كافة واجهات المكتبات كجزء من منظومة التدين الشكلي الزائف السائدة.
في شارع المعز تعلمت الفصال.. أهداني بائع للمشغولات النحاسية ثلاثة أساور بلاستيكية غير متناسقة الألوان ليراضيني. قال وهو يناولني اياها تصلحين لأن تكوني سيدة أعمال. ابهجني تعليقه واحتفظت به وبالاساور لتكون زادا للذكريات اجتره في سنوات القحط المقبلة.
أمام معبد ابي سمبل بأسوان انهمرت دموعي. لطمتني عراقة المشهد وتاريخيته أنا التي سكنتها الغربة عمرا ونبهتني إلى انني قد تأخرت كثيرا عن موعد ما في زمن ما. لحظة كاشفة فضحت عاهتي وبينت لي انني خلال ربع قرن عشته بلا قلب كنت أحاول التظاهر بأن كل شئ على ما يرام. ماج بداخلي جوع لم أصارح نفسي به في السابق كنت أهرب منه بالعمل الدائم والركض المتواصل نحو حماقات لا تعني لي الكثير. لم أكن أحلم بأكثر من هذا الموقف لأعلن صلحا مع نفسي.. تركتني صديقاتي لأحزاني.. أقدر من لا يطلب مني شرحا لدموعي فبعض الدمع عسير على التفسير.. لنفسي خاصة.
لم أكن أملك الوقت الكافي لدراسة كل تفاصيل اللوحة التي كنت على وشك مفارقتها.. الزحام، الضوضاء، طريقة القيادة غير الخاضعة لقواعد بل الخاضعة لقواعد فوضوية متفق عليها بين السائقين بشكل ضمني، أكوام القمامة الملقاة في كل ناصية كسبيل يرتاده الفقراء والحيوانات الضالة، تعبيرات التحايا المتطفلة بمناسبة وبدون مناسبة بغرض التسول، النظرات الجائعة الموجهة نحو أي أنثى حتى تلك التي تخطت سن الجاذبية بعقود، وصيفات الحمامات العمومية اللاتي يحرمنك من المناديل كعقاب إذا راودتك نفسك بألا تنفحهن بالبقشيش.. ولقطات أخرى كثيرة لم تدهشني.
لم أدهش لشئ على الاطلاق.. ممتلئة بمصر بجملتها كنت أقطع احياءها وشوارعها بشهية واتعامل مع ما يثير حنيني بنفس الكيفية التي اتعامل بها مع ما يثير حنقي إلى أن أزف وقت الرحيل.. وبخطى متثاقلة قادتني قدماي إلى المطار بعد أن كانتا قد حملتاني إلى هناك على أجنحة الشوق الجارف.