مينا ماهر يكتب : حساب المثلثات
بقلم: مينا ماهر
كنت أكره حساب المثلثات جداً في المرحلة الثانوية وحمدت الله انني قد تخرجت ولم اعد ادرسه، ولكن للأسف اعتقد انه لايزال يطاردني الى الآن... حتى في كنيستي! فالكنيسة اصبحت اليوم تقوم بعمل ألف "حساب" للقب "مثلث الرحمات"! انا لا اقصد السخرية اطلاقاً، بل هذا بالفعل ما ورد الى ذهني حين سمعت لقب مثلث الرحمات لأول مرة!
أنا لم أسمع بمصطلح مثلث الرحمات من قبل، الا بعد تنيح البابا شنودة الثالث فقط؛ ولا اتذكر أني قد سمعته يقال للبابا كيرلس السادس على مدار طفولتي كلها! ربما اكون مخطئ لكن هذه هي الحقيقة بالنسبة لي!
بكل صراحة، أزعجني هذا اللقب جداً لدرجة أنى بدأت ابحث عن مصدره وكما توقعت لم أجد له اي أصل كتابي او آبائي! بل هو لقب حديث أصبح يستخدم بكثرة بلا وعي! سمعت تفسير له من أحدالكهنة المعاصرين يقول بأنه يعني أن الشخص المتنيح تجوز عليه الرحمة ثلاث مرات!... فعلاً؟! فالرحمة إذن تجوز عليه ليست مرة واحدة ولا مرتين بل ثلاثة..."سوبر رحمة" إن صح التعبير!
اسمحوا لي أن أقول ايها السادة بكل ثقة أن هذا اللقب ما هو الا أحد الكلام الفارغ الذي نقوم بترديده كالببغاوات دون فهم! ...فالرحمة والمحبة والرأفة كلها عطايا لا تتجزأ ولا تعد من الأساس! خاصة حينما يكون مصدرها واحد وهو الله غير المحدود!... فالرحمة رحمة...لا هي اثنتان ولا ثلاثة...بل واحدة!
وحتى وإن افترضنا انها تتجزأ، لماذا تخص فقط البطاركة والاساقفة؟ أليس عامة الشعب اولى بهذه الرحمة؟ على اعتبار ان الاكليروس هم أكثر تقوى وليسوا مثل باقي الشعب المغموس في الخطية! في رأيي هم لا يحتاجون الى ثلاث رحمات...بل تكفيهم واحدة فقط، وليعطوا الفائض عنهم لمن يحتاج!.. نعم، بكل صدق اسخر من هذا اللقب ومن استخدامنا له ولا أحد يستطيع ان يحاسبني على هذا لأنه لفظ غير كتابي ولا ابائي...فهو كلام مقاهٍ مع الاسف!
تفسيري الوحيد لاستخدام هذا اللقب الدخيل على الارثوذكسية هو انه يعود الى التوجه العام نحو الاحترام الزائد تجاه البطاركة والاكليروس إلى درجة التأليه والعبادة، وعلى رأسهم طبعاً اليوم المتنيح البابا شنودة الثالث!
انا أكن للبابا شنودة كل حب واحترام وتقدير؛ فهو قد حمل نير صعب في فترة حرجة من حياة الكنيسة، وكنت اتهافت لسماع ندواته وعظاته ونكاته ولقاءاته التليفزيونية حين كان معنا على الارض! لكن للآسف بسبب موجة التأليه والتبجيل والتعظيم السائدةوالزائدة نحوه بعد نياحته، بدأت انزعج من رؤية صوره على صفحات التواصل الاجتماعي والتعليقات المتملقة الملحقة بها! فأصبحت اتحاشاها أو اتجاهلها تماماً!
هل لكم أن تتخيلوا معي؟ فمحبتكم الزائدة نحوه أصبحت تسبب لي عثرة، لأني أشعر أنكم قد استبدلتم بها محبة المسيح له كل المجد والكرامة...وسامحوني في هذا الحكم، لكن هذا ما الاحظه! فكمية الصور والمنشورات التي يتم تداولها ومشاركتها عن البابا شنودة الثالث او له، ويا حبذا طبعاً كلام الغزل العفيف المعسول المرسل له، قد فاقت بكثير عدد المنشورات الموجهة للمسيح نفسه...فبات "مثلث الرحمات" البابا شنودة الثالث هو المسيح عند البعض...والبعض الكثير مع الاسف!
مبدئياً، هذا المقال في حد ذاته سيثبت لكم ما أقول...فسيكون بمثابة جهاز كشف للحقيقة التي انا في صدد شرحها؛ لأنه من المتوقع أن اتعرض بسببه للهجوم الشديد والانتقادات الحادة، مع أنى لم أخطئ في حق أحد قط!
في السطور التالية سأعرض على حضراتكم بعض الملاحظات الشخصية التفصيلية على ما سبق إيضاحه بخصوص البابا شنودة:
١-في الحقيقة كم من مرة صادفت صورة البابا المتنيح ومعها جملتهالمأثورة "ربنا موجود". انا لا اعلم من قرر أن يقرن تلك العبارة بالبابا شنودة! في الواقع هي عبارة عادية جداً وليس بها اي بلاغة او عمق روحي يليق ببطريرك كالبابا شنودة حتى لو كانت لزمة عنده. فالكل يردد تلك العبارة سواء من المؤمنين او غير المؤمنين ومن قبل أن يولد البابا شنودة بآلاف السنين! وانا شخصياً اقولها على الدوام ايضاً! ويمكن أن تؤثر باسمي أنا او باسم اي شخص آخر؟ ...انا واثق ان للبابا شنودة أكثر من مقولة اخرى تستحق التأريخ، لكننا في رأيي أردنا فقط أن نميزه بأي عبارة كانت لمجرد التخليد بلا معنى وبلا عمق وبلا هدف! إن كانت تلك العبارة الركيكة هي خلاصة ما استفتدتموه منه، فباطلاً كان تعب البابا شنودة!
٢-يحضرني موقف حدث مع صديق لي على مفهوم معين في الكتاب المقدس كان يستحق التوضيح، فقام صديقي بالاستشهاد بالآباء وبكلام الكتاب المقدس لإثبات صحة هذا المفهوم، فكان رد احدى الحاضرات كالاتي: "انا لا اكترث بكل هذا، ما تفسير البابا شنودة؟!" هذه مهزلة بالفعل ان كنيسة آبائية تتحول الى كنيسة باباوية! وقس على هذه السيدة جمهوراً غفيراً لا يعرف عن تاريخ الكنيسة غير كتابات البابا شنودة الثالث فقط.
٣- وفي موقف آخر قام أحدهم باقتباس مقطع من كتاب ما للبابا شنودة، دون ذكر المصدر او الكاتب وقام بنشره على الفيسبوك...فسُأل بعض الاصدقاء عن رأيهم في المكتوب، حيث كان الكلام مثير للجدل بل ولاهوتياً غير دقيق ايضاً...فابتدأ الجميع بلا استثناء انتقاد الكلام والسؤال عن مصدره...وما ان تم الإفشاء عن المصدر، حتى تغيرت الآراء ١٨٠ درجة في ثوانٍ وابتدأ الجميعيحاولون إيجاد الأعذار بل واعادة تفسير المكتوب حتى يتناسب مع شخص الكاتب! لما كل هذا الفزع يا أعزائي؟! فكلنا نخطئ او قد يخوننا التعبير، لكن مع البابا شنودة بالذات، فالأمر يختلف تماماً! فالبابا شنودة، في نظر الناس، لا يمكن أن يخطئ ولا يجرؤ أحد أن يتعارض معه! من المضحك جداً أننا كأرثوذكس نرفض مبدأ عصمة البابا بتاتاً، ولكن دون أن ندري كنا ولا زلنا نعصم البابا شنودة- حتى بعد نياحته - من أي خطأ وبشكل معثر...على الاقل لأمثالي! فهل يصح ان نقول ان الايمان الأرثوذكسي الحالي لا يؤمن بعصمة الباباوات، باستثناء قداسة البابا شنودة الثالث؟ حاشا!
٤-سمعت منذ فترة ممن حولي إشاعات متداولة حول اصدار كتاب عن معجزات للبابا شنودة! لا اعلم مدى صحة الكلام، لكن السؤال هنا: هل يجب على البابا أن يصنع المعجزات؟! هل بسبب ان هناك كتب معجزات أُصدرت في الماضي للبابا كيرلس السادس، فستجرى العادة الآن أن يترك لنا كل بطريرك ارشيفاً لمعجزاته؟ هل أضيفت المعجزات كمؤهل أساسي للبطريرك حالياً؟ نحن صرنا نعبد الغيبيات للآسف، ونظن أن إيمان الكنيسة سليم فقط بسبب وجود تلك الآيات والعجائب...لذا يجب بالحري على البطريرك راعي الكنيسة أن يحوز بلقب صانع عجائب! قد تم فينا نحن ايضاً للآسف ما قاله المسيح في متى ١٢: ٣٩ "جيل فاسق شرير يطلب آية ولا تعطى له...." البابا شنودة لا يحتاج الى كتاب معجزات، بل كان لسانه وحكمته أكبر معجزة احتاجتها الكنيسة في عهده وكفى! في رأيي أن كتب معجزات كهذه يجب ان تُعدم من مكتباتنا، لأنهاتدعم السطحية في الايمان والتعلق الاعمى بالغيبيات دون أي عمق روحي؛ كما أن معظم ما يدون في تلك الكتب لا يُراجع كنسياً ولا لاهوتياً بل ومليء بالأخطاء العقائدية والطقسية ايضاً!
٥- وبمناسبة الكتب، كلنا تابعنا حديث الساعة الجاري عن الانبا أغاثون والصحفية التي كتبت كتاب عن مقتل الانبا ابيفانيوس! فالأنبا أغاثون، وهو للعلم كان أب اعتراف لي في ايام كهنوته الاولى حين كان يدعى ابونا عزرا، غار بشكل ملحوظ لأجل الهجوم المكتوب ضد شخص البابا شنودة الثالث وأخذ يدافع عنه بقوله اننا تلاميذه.... لا يا أبي الاسقف...مع كل الاحترام للبابا شنودة، نحن، وأنتم والمتنيح البابا شنودة نفسه، تلاميذ للمسيح والمسيح فقط في الأساس! فإن كان الكتاب يهاجم المسيح، فللكنيسة الحق أن تثور! اما إذا كان الهجوم على أفراد معينين في الكنيسة، فلماذا إذن تثور الكنيسة؟ فلسنا بكاملين نيافتك وكلنا معرضين للنقد! هل أهان الكتاب الإيمان أو المسيح!؟ اشك في ذلك! لأنك، وعلى ما فهمت من حديث نيافتك، قمت بتسليط الضوء أكثر على إهانته للبابا، وأظن أنه ان كانت هناك اية اهانة في هذا الكتاب لشخص المسيح او الايمان المسيحي لكنت قد ذكرتها بقوة في حديثك! فمن الواضح ان الكتاب لم يتعرض لإيمانيات؛ لذلك كان من الحكمة فعلاً تجاهل هذا الكتاب تماماً.
في النهاية وبعد أن أوضحت النقاط أعلاه، أرجو منكم اعزائي أن تتقوا الرب في قضية تأليه الاكليروس ومثلث رحماتهم وعصمتهم الزائفة حيث ان تلك الامور تعبر عن إيمان آخر غير ايماننا الأرثودوكسي...وهذا امر خطير! والبابا شنودة نفسه، إن عاد للحياة من جديد، فسيقوم بتصحيح مساركم وسينتقدكم في سلوككم الغريب المدسوس على الكنيسة الأرثوذكسية!
اتمنى ان نعيد النظر جميعاً في ايمانياتنا ولا نردد اشياءً ومصطلحات خاطئة غير كتابية لمجرد انها تروق لنا! فلا تتحول تلك المصطلحات والمفاهيم، بعد حين، الى تقليد كنسي...بل وتقليد اعمى!
واتمنى من الانبا اغاثون أيضاً، إذا قرأ هذا المقال، أن يرأف بي ولا يقوم برفع دعوى قضائية علي انا الآخر! والأولى به ان يتصدى لبدعة لقب مثلث الرحمات الذي انتشر كالوباء وان يمنع نهائياً تداوله غير الصحيح بين جموع الاساقفة الكرام وهم المفترض أنهم أكثر منا علماً وحكمة وتمييزاً