خالد منتصر يكتب: العلمانية والخلاص من زفاف الدم
إذا أردت أن تعرف نعمة العلمانية وأياديها البيضاء فلابد أن تنظر وتتعمق في تلك اللوحة المرفقة مع المقال والتي تخلد أشهر مذبحة دينية في تاريخ أوروبا ، مذبحة أو مجزرة "سانت بارتيليمي" والتي وقعت أحداثها في فرنسا سنة ١٥٧٢، علقوا تلك اللوحة على جدران بيوتكم أو ضعوها على " الديسك توب " للكمبيوتر أو المحمول ، فبرغم أنها لوحة مليئة بالدم والجثث ، ولاتحمل جمال منظر طبيعي أو جاذبية بورتريه امرأة فاتنة، إلا أنها لوحة تصرخ فينا كل لحظة ، هاهي العلمانية التي صارت كلمة سيئة السمعة في عالمنا العربي ، أنقذت ومازالت تنقذ وكانت دوماً طوق النجاة لأوروبا وللغرب ، هي التي صنعت مجدها وتقدمها الحالي ، عندما تخلصت سفينة أوروبا من أحمال وأعباء الفاشية الدينية ، إستطاعت أن تبحر إلى حيث شاطئ النور والأمان ، لكن ماهي تلك المذبحة ،وماهي ملابساتها؟، سنحكي لمحات من أحداثها معتمدين على ماوثقه أكثر من كتاب مهم عن معركة التنوير والأصولية في أوروبا وعلى رأسها كتاب هاشم صالح ، الحكاية بدأت بحفل زفاف في القصر الملكي بباريس ، تمت دعوة زعماء البروتستانت إليه ، وإنتهى زفاف الدم هذا بأن إنقض عليهم الجنود الكاثوليك ومزقوهم بسيوفهم ،هم يغطون في النوم !، ولكن هل إكتفى القتلة بالزعماء فقط ؟، إنها ساقية الدم التي ما أن بدأت في الدوران فلن تتوقف ، إنتابت الكاثوليكيين في شوارع باريس نوبة هياج هستيري ، وصار كل من يصادفه أي بروتستانتي في الشارع سواء امرأة أو عجوز أو طفل يقتله ويذبحه ، لاتفرقة ولارحمة ، إمتد القتل من الشوارع إلى البيوت التي إقتحمت ، بلغت الحصيلة في ثلاثة أيام فقط ثلاثة ألاف قتيل ، إشتعلت النار في المدن الأخرى وإمتدت خارج باريس ، صار الثأر كرة بنزين معلقة في ذيل قط مذعور داخل حقل قمح مشتعل ، صارت بوردو وتولوز وروان ...الخ ساحات إعدام للبروتستانت ، إرتفع الرقم إلى ثلاثين ألف قتيل ، وقد هنأ البابا غريغوار الثالث عشر ملك فرنسا على هذا العمل الجليل الذي أدى كما قال إلى إستئصال "طاعون الزندقة " من مملكة فرنسا الطاهرة ، وتلقى الخبر بصفته علامة على عناية الله ورحمته ، وإشتعلت الحروب الأهلية وبلغت ذروتها في عصر لويس الرابع عشر الذي أمر بسحق البروتستانت إذا لم يعتنقوا الكاثوليكية ، وكانت النتيجة هجرة ستمائة ألف بروتستانتي ، وكان تعليق بوسويه زعيم الأصولية الكاثوليكية مخاطباً لويس الرابع عشر :" لقد ثبت أركان الإيمان ياجلالة الملك وإستأصلت الهراطقة ، وهذا هو أكبر عمل جليل يحصل في عهدك ، فبك زالوا وإندثروا ، والله وحده أتاح لك هذا الإنجاز الذي يشبه المعجزة ،ياملك السماء إحفظ لنا ملك الأرض " ، لكن هل الأمر كان متعلقاً بطائفة أو عقيدة بعينها ، الإجابة بالطبع لا ، أي دين أو عقيدة تلعب سياسة وتقحم السماء في شئون الأرض ستنتهي إلى نفس النفق المعتم ، ففي إنجلترا حدث العكس ، المهرطقون صاروا هم الكاثوليك ، وصار الله مع البروتستانت ضدهم فجأة، وكانت مجزرة "دروكهيدا" الأيرلندية هي الفوتوكوبي لمجزرة سانت بارتليمي ، في سبتمبر ١٦٤٩ ، عندما وصل كرومويل بجيوشه أمر بقتل الكاثوليك ، وعندما قيل له من الممكن أن يكون بينهم مؤمنون ، كان رد كرومويل " إقتلوهم جميعاً ،فالله يعرف عباده الصالحين" !!،صار هو المتحدث الرسمي باسم الله ، قتل في تلك الحملة مالايقل عن نصف مليون كاثوليكي أيرلندي في دوركهيدا فقط ، وتم حرمان أي كاثوليكي من أي وظيفة ماعدا الطب!!، وتم منعهم من تدريس عقيدتهم ، ومنعوا من إمتلاك أي سلاح أو حصان يزيد ثمنه على خمسة جنيهات !، قام فولتير بعمل إحصائية تقريبية لضحايا القتل والحرق والشنق باسم الله في أوروبا، فوجدهم تسعة ملايين وأربعمائة وثمانية وستين ألف شخص ، كلهم ذبحوا قرباناً للرب ،إنها قصة إحتكار السماء التي دوماً تنتهي بنزيف الأرض ، فهل إستوعبنا الدرس ؟.
[caption id="attachment_6540" align="aligncenter" width="286"] خالد منتصر - العلمانية والخلاص من زفاف الدم[/caption]