مينا ماهر يكتب: الخادم الملك
يتمتع قبو الخدم بمساحة فارهة، بحجم محيط القصر الملكي بأكمله، مقسماً بعناية الى مطبخ شاسع، ومخازن، ومكاتب، وغرف، وعنابر نوم! ويقطن القبو العديد من الخدم والخادمات الذين ينهضون يومياً من الساعة الرابعة صباحاً الى الساعة العاشرة مساءً، لتلبية طلبات القصربحسب قوانين اللجنة الإدارية التي يرأسها رئيس الخدم الذي يعيش معهم ايضاً في القبو في غرفة نومٍ خاصة.
من المفترض أنه في كل عام تُخصص معونة مالية ضخمة للقبو من العرش الملكي، وكانت تصلهم على يد شخص من الحاشية، لتفيباحتياجات القبو ومصروفاته. كان هذا يتم بشكل روتيني بحت، وبيروقراطية مملة! فعلى سبيل المثال، لم يكن هناك موعد ثابت للمعونة! فقدتأتيهم في مطلع العام، أو في منتصفه، أو قد تؤجل الى العام المقبل، وما على الخدم المساكين الا الانتظار بذل ومهانة الى حين انفراجالحال! كانوا يعيشون على الأمل الذي يجلبه إليهم كل مندوب ملكي حامل للمعونة، وهو أنه سيتم تعيين مندوب ملكي سامٍ دائم ليقيم معهمفي القبو، فلا يظلون عبيداً للمعونة السنوية بعد ذلك! وكان الخدم - مع الاسف- يتعلقون بأذيال ذلك الامل الذي لا يتحقق أبداً!
أما في بهو قاعة العرش الملكي في قمة القصر، صاح الملك في حاشيته قائلاً:
-الى متى سأقوم بصرف معونات مالية لكافة اجنحة القصر، دون ان أتواصل مباشرة مع العاملين في تلك الأجنحة؟! فتواصلي معهمسيساعد على إدراكي لاحتياجاتهم، وبالتالي ألبيها كلها كما ينبغي!
وحتى تتم عملية التواصل بنزاهة...بلا تلاعب ولا تضليل، قرر الملك بسرية تامة التخفي في شخصية أخرى حتى يستطيع أن يعيش وسطأهل قصره ليراقب احتياجاتهم عن قرب! ولم يسمع أحد بالقصر عن هذه المهمة الخطيرة غير وزرائه المقربين فقط!
ونزل بالفعل الى قبو الخدم، عن طريق تقديم طلب وظيفي طبيعي جداً الى اللجنة الادارية للخدم، وتمت الموافقة عليه! وتقمص شخصيةالخادم ببراعة ولم يشك به أحد قط! اندمج بلطافة مع بقية الخدم وصادقهم، وهم ايضاً التفوا حوله بدورهم وأحبوه! كان هو الوحيد الذي يقففي وجه قوانين اللجنة غير الآدمية، خاصة عندما كانت تنسب قسوة القوانين شخصياً للملك؛ فكان ينزعج ويغتاظ بشدة بسبب تحريفهملمعاني قوانينه ويقول:
-لا اعتقد ان جلالة الملك كان يقصد ذلك بهذا القانون، بل كان يقصد كذا وكذا!!
ومن كثرة تحدياته لفساد اللجنة، بل وتكرار شرحه للوائح القصر وخلفياتها والمقصود منها، شاع الامر بين الخدم انه هو المندوب الساميالمنتظر؛ فتشكلت له جلسة تحقيق عاجلة برئاسة رئيس الخدم الذي سأله على الملأ:
- هل انت المندوب السامي؟! من المفترض أن يكون هذا المندوب من جهة الملك وليس، عفواً، بخادم مثلك! فهل أنت هو المندوب؟
فرد عليه بثقة:
- انت تقول!!!
لم تُحتمل إجابته نهائياً، وتم طرده من القبو في التو والى الابد، مما أصاب رفقائه الخدم بالحزن والتعاسة، ومن ثمة الخوف!
وبنفس الطريقة خرج الملك من القبو لافتقاد بقية أجنحة القصر الاخرى، وبعد ان أنهي مهمته، قرر الرجوع الى قبو الخدم من جديد ليكشفلهم عن حقيقته؛ فدخل القبو بزيه الملكي البهي ووقف بين اصدقائه واحبائه الخدم، وهم انحنوا له تلقائياً برهبة الملوك، دون أن يعرفوه! فخلععنه الزي الملكي وطلب منهم أن يرفعوا رؤوسهم لينظروه! كمُ من السعادة الغامرة قد اكتنفتهم عندما كشف لهم عن هويته الحقيقية! فهو أمرخارج نطاق العقل أن يكون الملك بكل مجده وسلطانه، هو ذاته هذا الخادم الذي عاش بيننا، في وسطنا، حتى يفهمنا ويحبنا ونحبه كواحدمنا! بل وقبل الهوان والظلم من أجلنا! ومن ذا يستطيع أن يعقل هذا الأمر؟!
وانحلت تدريجياً اللجنة الادارية للخدم، وأقيل رئيس الخدم كنتيجة طبيعية للوضع الجديد، فلا حاجة لهم بعد الى لجنة ادارية، فقد انفتح لهمطريق مباشر، ليصل رأساً قبو الخدم بقمة القصر، حيث العرش الملكي، بلا وساطة ولا نيابة!
فكيف إذن لا تهتز مشاعر اهل القبو بعد سماع قصة بهذه الروعة، ولا يقومون بخلع قبعاتهم تمجيداً لهذا الملك العظيم الذي ارتضى أن يأخذصورة الخدم لكي يرفعهم إليه كالملوك