خالد منتصر يكتب: أصعب رقابة
يشكو المبدعون في مصر من جهاز الرقابة ،ويقولون لماذا هناك جهاز رقابة على المصنفات الفنية؟ ، وأنه يجب ترك الحرية لضمير الفنان ، ويصفون تلك الرقابة بأنها أصعب رقابة ، وأنا معهم في رفضهم لجهاز رقابة فوقي يتعامل مع الإبداع بالمسطرة والكيلو، وأن المجتمع الذي مناعته عالية وحاصل على الفاكسين الثقافي الصحيح لايحتاج إلى مثل تلك الرقابات، لكني مختلف مع الشق الثاني القائل بأن ذلك الجهاز الحكومي الرقابي هو أصعب رقابة ، فالأصعب من ذلك الجهاز الرقابي الحكومي ،هي الرقابة الذاتية ، الرقابة التي تجعل قلمك مكسوراً ولسانك مشلولاً وفكرك أخرس، والمصيبة أن الجاني الذي يكسر والمتهم الذي يشل والمجرم الذي يخرس هو أنت!
تلك الرقابة التي تجعلك بالرغم من أنك في حجرتك، تكتب وحيداً بعيداً عن العيون، ومن الممكن أن تمزق الورقة التي كتبت عليها أو تشطب الكلمات التي سطرتها، أو تحذف ديليت ماهو أمامك على الشاشة، تجد صوت رقابتك الداخلية يمنعك من البوح، يحرمك من الصدق، يكتم كل مفردات الحقيقة والشفافية في حياتك ، تخرج أيادي تربيتك القمعية كالأخطبوط لخنقك ، تطل أحداق المدرسين ورجال الدين والجيران ورفاق العمل اللزجة وهي تصف أي مروق لك عن قضبان المألوف الحديدية بالحرام والعيب والجنون والحماقة، إنها رقابة التربص الداخلي، إنه الخوف، الذعر من الإستثنائي، الرعب من المختلف، التوجس من أن تكون نفسك وتعلن حقيقتك، هذه أقسى الرقابات وأفدحها ثمناً،
جزب أن تقرأ سيرة ذاتية مصرية أو عربية ، ستكتشف أن المبدع العربي هو الوحيد الذي لايستطيع التعري والنبش داخل أعماق سراديبه والبحث في سندرة كراكيبه النفسية ، لماذا؟، لأن لديه تلك الفرامل والكوابح التي تفقد سيرته الذاتية طعم الصدق ، فتصبح حفنة أكاذيب بين غلافين ، عندما تفقد حنجرتك وأناملك، أنت تفقدها ليس بسبب جهاز حكومي قامع ، لكنك تفقدها قبل ذلك بسبب شارع قامع، ورأي عام قامع ، وجمهور قامع، وكله بإسم الأغلبية وتحت شعار الديمقراطية، إستيقظت ذات يوم لأجد مجلتي الثقافية التي كنت أشتريها بأنتظام ، مجلة إبداع ، غير موجودة في السوق لأن أحد اللوحات المنشورة آنذاك لم تعجب عضو مجلس الشعب !، اللوحة عارية، حاول الوزير الفنان فاروق حسني الدفاع عنها وتوضيح الحقيقة وشرح كيف تتذوق لوحة فنية بعيداً عن منظارك السلفي،ولكن بلافائدة، والغريب أن الحزب الوطني حينذاك في هذا الموقف فقط تحول إلى معارضة شرسة، ذوداً عن الدين وحماية للشرع، مازلت أتذكر عامل مطبعة هيئة الكتاب الذي رفض طباعة أحد المؤلفات لأنه رجل مؤمن لايرتكب الحرام !، مما ذكرني بالمشهد العبقري الذي كتبه المخرج الفنان المبدع داود عبد السيد في فيلم "مواطن ومخبر وحرامي" الذي أحرق فيه الحرامي والذي كان يجسد دوره شعبان عبد الرحيم رواية المواطن لأن الرواية ليس بها آذان واحد أو صلاة واحدة ، والبطل فيها لم يحج أو يعمل عمرة !.
مازلت أتذكر مظاهرات المصريين في الشارع ضد رواية أعشاب البحر، وكأنهم خارجون لتحرير القدس، مازلت أتذكر الإنتفاضة ضد فيلم بحب السيما لأنها خدشت صورة البطل المسيحي، مازلت أتذكر إجبار الأزهر للتليفزيون على الإعتذار عن مشهد إنكار محمود مرسي لعذاب القبر في مسلسل العائلة ، وكتابة مشهد جيد بممثل جديد يعلن فيه أن عذاب القبر موجود وحقيقي !، هذه ليست رقابات من جهاز الرقابة على المصنفات ولكنها رقابات شارع سلفي ومجتمع متحفظ متشرنق يكره التغيير والتجديد، أن تكتب وحولك جدران زنزانة خانقة، وفوقك سقف ضاغط، ويدك مغلولة، وكاميرات السجن مفتوحة وموزعة على كل الزوايا، ستجعل إبداعك مدرسياً مملاً مثل نشرات أنشطة المحافظ أو برقيات التعازي، الصوبة ليست مكاناً مناسباً للكتابة، بينما الحقل البراح الرحب هو المستفز للإبداع المتفرد والجديد، الصوبة المعقمة لاتطير فيها العصافير، بينما الحقل البكر هو محطة كل الطيور، حرارة الإبداع تتمرد على كل ترمومترات العالم ، تتخطى كل المقاييس، قبل أن تلعن رقابة المصنفات الخارجية ، إلعن قبلها رقابة المكبلات الداخلية، إفتح مسام العقل والقلب حتى لاتصاب بأسفكسيا جفاف الإبداع وبوار الخيال.