منسي موريس يكتب: التنوير بين خطرين
التنوير معناه إستخدام الإنسان لملكاته العقلية ويعرفه الفيلسوف الألماني " كانط" على أنه قدرة الإنسان على إستخدام عقله وعدم الإتكال على الآخر في التفكير ، فالإعتماد على الفكر هو الأساس الضرورى والجوهرى لضمان نجاح عملية التنوير فالعقل هو آداة التنوير وينبغى أن يكون فوق كل سُلطة وكما يقول " سيجموند فرويد " ليس ثمة سلطة تعلو على سلطة العقل ، ولا حجة تسمو على حجته ، فالتحرر من كل سُلطة من شانها أن تُقيد العقل هو فعل واجب وضرورى والتحرر هنا لا يعنى الإنفلات والسعى وراء الشهوات والإنحلال الخلقى لكن يعنى نقدالأشياء والتمييز بين الصواب والخطأ الخير والشر .
وتعد السُلطة الدينية غالباً ما تفرض قيود على العقل بحيث أنها لاتعطى للعقل الحرية في التفكير بمعزل عنها أو نقدها وهذا يعتبر عائق كبيرو خطر جسيم يهدد الفكر والعقل والتنوير وإنتقدنا مراراً وتكراراً هذه السُلطة ، لكن هناك سُلطة الآن بدأت في الإنتشار في الشرق الأوسطوهى تتناقض تماماً في مضمونها مع السُلطة الدينية لكن في مجملها تؤدى إلى نفس نتيجة السُلطة الدينية في محاولة سيطرتها على العقل وتقييده أيضاً وهى " السُلطة اللادينية " المتمثلة في الفكر الإلحادى والربوبى الذى يرفض كل الأديان ويعتبرها مصادر ومنابع للجهل والخرافة فأول مغالطة يقع فيها هذا الفكر هي التعميم نعم هناك أديان وجدت عبر التاريخ كانت سبباً في تخريب الإنسان لكن ليست كل الأديان تتفق مع بعضها البعض في التصورات الكبرى عن " الإنسان ، الله ، الحياة " ، فالمسيحية التي أؤمن بها حتى ولو كانت في نظراللادينين مجرد خرافة لكن دعونا نتفق على أن جوهرها يقوم على الحب والتضحية والإيثار لكن السُلطة الدينية المتمثلة في رجال الدين نعم قد تضر بالإنسان والتاريخ والواقع أكبر شاهدان على ذلك فأنا مع جوهر المسيحية لكن أنتقد السُلطة الدينية التي تفرض قيود على العقل والوجدان وكذلك أنتقد السُلطة اللادينية التي تسير على نفس النهج والمنوال ، فكلا السُلطتين " الدينية واللادينية " يشتركان في بعضالخصال التي تضر بقيم التنوير مثل :
1- إحتكار المعرفة : كل منهما يحتكر مفهوم المعرفة فالسُلطة الدينية تتهمك بالجهل وعدم المعرفة وربما الهرطقة في حالة الإختلاف معها ونقدها وكذلك أيضاَ السُلطة اللادينية فالكثير من المُلحدين واللادينيين يتهمون كل مؤمن بالجهل والغباء وعدم المعرفة فكلاهما ينسب لنفسه كل العلوم والمعارف وكل من يختلف معهم يضعونه في دوائر الغباوة والبلاهة.
2- إحتكار العلم : كل سُلطة منهما تحتكر العلم فالسُلطة الدينية تأخذ من النصوص مفاهيم علمية وتأخذ من العلم مفاهيم دينية لإثبات صحة ما تؤمن به كذلك الكثير من المُلحدين واللادينيين يفسرون النظريات العلمية تفسيرات إلحادية لإثبات المنظور اللاديني رغم أن من يقرأ في فلسفة العلم سيدرك جيداً أن العلم لا يمكنه الفصل في القضايا الميتافيزيقية لأن منهجه هو التجربة وموضوعه هو المادة أما قضايا اللاهوت فهي قضايا ما ورائية لايمكن الحكم عليها علمياً فالعلم لايمكنه أن يبث في قضايا " وجود الله ، وجود الروح ، الخلود "لأنها ليست قضايا مادية يمكن إختبارها معملياً لكن إذا أردنا أن نستنبط أحكاماً من المبادئ العلمية علينا أن نستعين بأستدلالات فلسفية عقلية لكن العلم يعتبر محايد في مثل هذه القضايا ، فالعلم وحده بدون التفلسف لايحسم المسائل الوجودية
3- عدم نقد الذات : كلاهما يرى أن العيب في الآخر وينتقد الآخر بكل شدة وضراوة لكن لانجد أى طرف منهما ينتقد ذاته بل على العكس تماماً نجد أن كل فريق منهم يرى أن منظومته الفكرية هي مثال للكمال المُطلق لا عيوب فيها ولاثغرات ، فنرى أن السُلطة الدينية تتعامل مع المُصلحين الدينيين على أنهم أعداء وكذلك السُلطة اللادينية تعتبرهم مُرقعين للدين رغم أن المفكر الدينى يقوم بنقد منظومته ويحاول إصلاحها لكن أغلب المُلحدين لانجدهم يفعلون نفس الشىء وينتقدون منظومتهم اللادينية بل على العكس نجدهم يرونها كاملة لاخطأ فيها ويدافعون عنها كأنها دين موحى به من السماء ، كذلك السُلطة الدينية ترى في المُلحدين واللادينيين أنهم تركوا الدين لأجل الشهوات والسُلطة اللادينية ترى في المؤمنين إستغلال الدين للسيطرة على البشر و لأجل الشهوات ، الكل يتهم الكل ولا أحد يريد أن يفهم الآخر على حقيقته وينتقد ذاته.
4- إحتكار مفهوم التنوير : ، أصبح مفهوم التنوير يُحدد حسب ما يؤمن به الشخص من عقائد لا من حيث ما يؤمن به تجاه أخيه الإنسان ،فالشخص المستنير هو الذى يحترم حقوق الإنسان ويفكر بشكل علمى وعقلى بغض النظر عن ما يؤمن به سواء كان مسيحي أو ملحد ، لكنالسُلطة اللادينية بدأت في إحتكار مفهوم التنوير والعقلانية بشكل فج وتنسب لنفسها الفضل والسبق في هذا الباب وكأن البشرية عاشت في ظلام دامس إلا أن جاء الإلحاد وأضاء بنوره العالم أجمع وكأن الإلحاد صار " المخلص " الذى حرر البشرية من خطيئتها الأصلية " الجهل " رغم أن التاريخ يخبرنا بعكس ذلك فلا علاقة ضرورية بين الإلحاد والتنوير وقد كتبت عن هذا الموضوع بشكل مفصل يمكن للقارىءالرجوع إلى هذا الموضوع (1) وبأختصار فالحضارة الأوربية الحديثة مثلاً لم تنشىء من قلب الإلحاد بل قامت على التراث اليوناني والفكراليهودى والمسيحي والقانون الرومانى فكيف نرمى بكل هذا في أقرب سلة مهملات ونصدق مقولة السُلطة اللادينية أن التنوير خرج من رحم الإلحاد واللادينية؟ العيب وكل العيب أن هذه السُلطة صارت تحتكر مفهوم التنوير لكى تثبت صحة نظرتها وفلسفتها عن الوجود والله والأبدية وهذا يعتبر إستغلال للمفاهيم لإثبات رؤية وجودية معينة .
أخيراً : هل يمكن أن نصل إلى مراحل متقدمة من التنوير والتطور في وضع ملىء بكل هذه التهم والتشوهات ؟ هل يمكن بناء عقلية نقدية خالصة محايدة في وسط بيئة الكل فيها يحتكر المفاهيم والمعارف والذكاء والعقلانية؟ كيف يمكن تأسيس عقل مستنير مستقل في ظل ثقافة الرائج فيها التعصب وتشويه الآخر؟ في إعتقادى البسيط والمتواضع إذا كانت أغلب السُلطة الدينية تُشكل خطراً على التنوير وأن أعتبرها كذلك فالسُلطة اللادينية أراها تشكل أيضاً خطراً على التنوير فواقع التنوير الآن صار بين خطرين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فك الترابط بين الإلحاد والتنوير .
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=688461
2- هل تقدم الغرب بعد أن تخلى عن المسيحية ؟