مينا ماهر يكتب: رواية كلمتين في حب مصر (2)
مقدمة: كتبت هذه الرواية في عهد الرئيس محمد حسني مبارك وانتهيت منها قبل ثورة ٢٥ يناير بأسبوع!
بعد أن بدأ هادي ابو الخير برنامجه الإذاعي اليومي "كلمتين في حب مصر" مناقشاً قضية الهجرة وسلبياتها تلقى مداخلة من شخص يدعى رامز المصري…
الحلقة ٢:
من المعروف عن رامز إنه لا يشترك في هذه البرامج والتي تعبر -في نظره- عن تفاهة المجتمعات العربية بشكل عام والمجتمع المصري علي وجه الخصوص. وللعلم، هذه هي أول مرة يسمع فيها رامز راديو "محبة مصر"! فهو كان يتصفح الانترنت عن طريق "جوجل" ولفت نظره اسم محطة الاذاعة وقرر أن يدع اغاني الاذاعة تلعب في الخلفية أثناء قراءته، لتملأ عليه جو الوحدة الي ان تعود اخته من عملها الليلي، ولكنه لم يكن يتخيل للحظة أن يمسك بسماعة الهاتف ويقوم بالاتصال؛ وها نحن في صدد ان نعرف سبب هذه المكالمة عندما أجاب رامزُ المذيعَ قائلا:
- ايوة يا هادي...أنا سامعك... شوف ...الكلام اللي اتقال دا كلام مظبوط مافيش شك فيه...بس بيشكل نص الحقيقة!
- نص الحقيقة؟! ممكن توضح اكتر؟
- اقول لحضرتك...النص التاني م الحقيقة انه قصر ديل يا ازعر ...مدام سلمى لو اخدت بالك من كلامها بتقول ان جوزها اخر ما غلب... اشتغل تاكسي...طب اشمعني غيره نجح وبقى دكتور كبير...يبقي العيب هنا في مين؟ في النظام ولا في الشخص نفسه؟ ... مع احترامي الشديد لجوزها
- افهم من كده ان انت مع الاغتراب مش ضده؟
- يا سيدي الفاضل النجاح مالوش وطن...مش دي القضية اللي اقدر ابني عليها استنتاج أن الهجرة قرار سيئ.... السؤال الحقيقي اللي لازم تركز عليه...ليه بعد الفشل الناس مابترجعش؟... ولو رجعت بتندم..؟ وخلي بالك انا اقصد عامة الشعب...يعني أنا وأنت!
- استاذ رامز واضح ان حضرتك بتعبر عن رأيك الشخصي.
- وماله ...مدام مبني على تجربة شخصية...يبقي لازم يؤخذ بيه...زي اي رأي تاني.
- طب ما تدينا نبذة سريعة عن التجربة دي يا رامز، يمكن تساعدنا نفهم وجهة نظرك.
- هتزعل مني...
- لا أبدا إحنا كلنا ناس مثقفين ومخنا متفتح.
- اللي بيكلمك دا يا استاذ هادي...مر بتجارب في الغربة اكتر من اللي مر بيها زوج السيدة سلمى. وكان على وشك انه يرجع فعلاً اكتر من مرة بس كل مرة كان بيلاقي سبب مقنع جدا انه ما يرجعش...
- زي إيه؟
- إسمحلي احكيلك عن والدتي!
***
والدته، السيدة عواطف محمود بيك السكّري؛ نشأت في بيئة متيسرة في أواخر عهد الملك فاروق. ورغم بساطة وطيبة اهلها –على الرغم من غناهم- إلا أنها كانت تمتاز بتمرد غير ملحوظ؛ يظهر فقط حين تضطر لإظهاره مثل الظربان الذي يطلق رائحة نتنة لطرد أعداؤه. ظهر ذلك التمرد وزاد تدريجيا نتيجة لما مرت به عائلتها من متاعب بعد الثورة، منها تأميم ممتلكاتهم، وطردهم من بيتهم، مما خلق بعض التحفظات لديهم في تعاملاتهم مع بعضهم ومع الناس أيضاً؛ ولكن بشكل عام، كانت تبدو فتاة خلوقة رغم معاناتها من ذلك الكبت العائلي. ولنكون صرحاء، من منا لم يعان من ذلك الكبت في سنين المراهقة؟ ومع هذا سنتفق ان كبت عواطف لم يوجه أو يعالج كما ينبغي، وهذا ما سنستعرضه في السطور القادمة.
عندما بلغت السادسة عشر من العمر قام والدها بتزويجها من أحد أقربائهم -وكان يكبرها بـثلاثين عاماً - حرصا منه على مستقبل ابنته المادي والأخلاقي -والعائلي أيضاً- حيث كان العرف أن تُزوج بنات العائلات من رجال نفس العائلات للحفاظ على السلالة؛ وها هي عواطف، امرأة متزوجة من سلطان بيك (سابقا)، رجل ذو نفوذ وهيبة؛ تستطيع ان تقول انه سلطان بمعنى الكلمة! فمن الغريب ان تجد شخصا مثل هذا في عصر فقدت فيه السلطة والنفوذ، فهو كان يتسم بذكاء حاد وحنكة تجعله يكسب من أمامه في صفه، هذا وبالإضافة إلى حضوره وجاذبيته اللذين يريحان اي شخص يتحدث معه؛ ولكن العجيب انه على الرغم من ذكائه الملحوظ، كان يبدو غبياًّ في نظر عواطف زوجته؛ فحضوره الوافر يخذله أمامها على الدوام. هو في الحقيقة دائم الغياب عن منزله -وتُعتبر هذه احدى سقطاته- وقد يرجع ذلك ايضاً الي تمرد عواطف المعتاد (والغير محتمل احيانا). فكما نجد صعوبة في معرفة من جاء اولاً: البيضة أم الدجاجة، يصعب على أن أفسر ما إن كان تغيبه هو سبب التمرد أم العكس هو الصحيح...
مرت عليهما ثلاث سنوات والتفاهم بينهما يضمحل شيئا فشيئا، خصوصا بعد وفاة والديها اللذين كانا يعملان كمصلحين اجتماعيّن يصلحان ما أفسدته الأيام بينهما في أول سنتين. ولكن يشهد الزمن ان سلطان -رغم اهماله لها عاطفيا- لم يقصر في إمدادها بكل احتياجاتها المادية، مما أفسدها أكثر وأكثر. وها نحن أمام امرأة وحيدة، ثرية، محاطة بجميع أنواع الرعاية من خدم وحشم، ولديها أيضاً من التمرد ما يكفي لعمل انقلاب سافر!
في يوم من الايام تقدم إليها خادمها الخصوصي والتي بدأت بالإفصاح عن أسرارها معه بحكم تواجده الدائم في المنزل -على نقيض زوجها- ففتحت فاها وقالت له:
- فيه حاجة يا عبده؟
- أبدا يا ست هانم...أنا بس صعبان علي قعدتك لوحدك...قلت أجي اقعد مع حضرتك شوية...
- كتر خيرك يا عبده... أنا خلاص اتعودت على كده يا عبده وانت عارف...
- بس يا ست هانم كده مش صح...ما أنا موجود معاكي...يعني انت مش مجبورة على كده...فضفضي يا ست هانم...
- اقول ايه تاني يا عبده ما أنا شكيت لك قبل كده...
- لا يا ست هانم...الشكوى لغير الله مذلة...أنا اقصد...اتكلمي معايا...اعتبريني صاحبك!
- صاحبي؟!
- لا مؤاخذة يا ست هانم أنا آسف أنا الظاهر نسيت نفسي...عن اذنك...
انصرف عنها فورا دون ان يعطيها فرصه للكلام؛ اما هي فظلت صامتة وكأن بحر من الافكار قد غمرها: من هو عبده؟ وما الذي ينوي على فعله هذا الخادم؟ اهو صديق بالفعل أم ذئب بشري يود أن ينفرد بمخدومته مستغلا ظروفها؟ لندع سوء الظن جانبا، ولنفترض انه خادم بسيط يود بالفعل أن يكون صديقا - إلى أن يثبت العكس! قد تعاطف عبده فعلا مع سيدته التي بادرت بفتح قلبها له أولا؛ فمن يستطيع أن يلومه إذًا وهو أيضاً من لحم ودم؟
في نفس اليوم، دعته عواطف بعدها، فجاء وهو في غاية الخجل وقال:
- أفندم يا ست هانم؟
فأجابت بلهجة مداعبة:
- مالك يا عبده انت زعلان ولا ايه؟
ودون ان ادخل في تفاصيل لا داعي لها، فقد نشأت بالفعل صداقة حميمة بين ربة المنزل وخادمها. ولأننا لسنا بملائكة، أي نقع تحت سلطان الطبيعة البشرية الضعيفة، فقد تطورت هذه الصداقة الى حب غامر! وهذا متوقع، فهي متعطشة للاهتمام حتى إن كان من خادم يصغرها في السن. وعلى الرغم من توهج مشاعرهما إلا أن علاقتهما لم تتطور إلى أكثر من قُبلات سريعة؛ كان يتسنى لهما ذلك عندما تأمر عواطف بقية الخدم بالذهاب. وهكذا صار الأمر شبه معروف في المنزل بين الخدم. أما سلطان، ففي عالم آخر من إدارة الاعمال واللذة غير المشروعة! فقد حرمت عليه عواطف ان يلمسها إطلاقا، فكان يغيب عن منزله بالأيام وأحيانا بالأسابيع. فهل فقد الرغبة فيها فعلا، أم قد أجبرته أن يفقدها؟ في النهاية، فقد قبل على نفسه ان يكون حاضرا غائبا، وربما قبل ذلك على نفسه ليتحاشى صدمة خيانتها له.
ومع ان المناخ العام كان متاحا للعاشقين لممارسة الحب، الا انهما اتفقا ان لا يحدث حفاظا على سمعة عواطف كامرأة متزوجة، حتى تلك الليلة المشؤومة حين دخل عليهما سلطان وهما كانا في ذروة الانصياع لشهوتهما المكبوتة. ورغم أن سلطان كان مستعدا نفسيا ومتوقعا أن يرى ذلك يوما ما، الا أنه لم يكن مدركاً وقعة الموقف على صحته، والتي تأخرت كثيرا بحكم كبر سنه وضخامة وزنه؛ فما أن رأى ما رآه حتى سقط رأساً على الأرض وكأنه حارس مرمى تلقى ضربة قاضية من خصمه أوقعت به شر وقعة، وأحرزت هدفا!
توفي سلطان متأثرا بما رآه تاركا ثروة طائلة لزوجته –وعشيقها! أما عواطف فبلغت من تبلد المشاعر حد لا يوصف؛ فلم يؤثر بها للحظة تسببها في موت زوجها وكأن شيئا لم يحدث. وما لبثت أن تزوجت عبده الخادم فور انقضاء شهور العدة.
رغم السعادة التي بدت عليهما في السنين الأولى من الزواج إلا أنها بدأت تتلاشى مع مرور الوقت؛ فالمشاعر العاطفية -كما نعرف- تزول ان لم يتم استبدالها بالعشرة الطيبة والمشاركة في المسؤولية، وللأسف لم ترتق مشاعرهما لهذا المستوى نظراً لاختلاف مستواهما الاجتماعي والعلمي؛ فالرجل مهما بلغت رجولته قد يعيبه جهله وانحدار بيئته؛ وهذا في النهاية كان اختيار عواطف، التي لم تقر باسفها عليه وقتها نظرا لتمردها وصلابة رأسها.
مع مضي السنين، ونفاذ ثروتهما التي بدداها يمينا ويسارا، نرى هذه السيدة تتحول من امرأة أرستقراطية إلى أنثى ثائرة متحجرة المشاعر، فقيرة -وأعني فقيرة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ- ورغم ذلك لم تحاول الرقي بمستواها لأنها -بصراحة- اعتادت بل أحبت رائحة العفن، واستعصت النهوض مرة أخرى بعد فوات سنين ليست بقليلة. بعدها توفي عبده زوجها بمرض السرطان، تاركا لها ذرية من بنين وبنات، بالإضافة إلى ديون لا تحصى!
يتبع في الحلقة القادمة من العدد القادم