مينا ماهر يكتب: رواية كلمتين في حب مصر (3)
مقدمة: كتبت هذه الرواية في عهد الرئيس محمد حسني مبارك وانتهيت منها قبل ثورة ٢٥ يناير بأسبوع!
بعد مداخلة رامز المصري للمذيع هادي ابو الخير أثناء برنامجه الإذاعي "كلمتين فى حب مصر" وصرح له بأن الهجرة ليست بقرار سيء، جادله هادي ليشرح وجهة نظره، فابتدأ يروي له عن والدته الارستقراطية الأصل التي تزوجت بخادمها وكيف تحولت مع الزمن إلى أرملة بائسة تعيسة وفي حضانتها عدة اطفال!
حلقة ٣:
تكدر وجه هادي ابو الخير حينما سمع رامز يتحدث عن أمه، ليس لتأثره بما سمعه ولكن لظنه أنه موضوع على هامش القضية بعيدا عن هدف البرنامج؛ ومع ذلك لم يقاطعه قط فاسترسل رامز قائلا:
- وتشاء الأقدار أن أكون أحد الأولاد دول... قصره...بعد ما ابونا مات و بقينا ع الحديدة رسمي...أمي بقي ابتدت تبيع عيالها...او بمعني لايق شوية ...توزعهم بأجر ...ففي اللي راح هنا واللي راح هناك مافضلش معاها الا اختي الصغيرة دنيا...ومن ساعتها بقت معروفة بأم دنيا...خدامة بيوت بتتخبط من بيت لتّاني...
لم يستطع هادي أن يحتفظ بصبره أكثر فقاطعه اخيراً:
- استاذ رامز أنا مقدر جدا الظروف اللي مريت بيها...بس مازلت مش قادر اربط العلاقة بين موضوع البرنامج وقصة والدة حضرتك.
- صح هو لغاية دلوقتي مافيش علاقة خالص...بس ايه رأيك لما تعرف بقى انها باعتني وانا ابن ٣ سنين لواحدة خليجية...على أساس التبني يعني...وانا سافرت مع الست دي بلدها ...وخليتني ابعد عن مصر! ...حلو كده؟..اديني دخلت في موضوع البرنامج...
- تمام ...وبعدين؟…
***
كان ذلك في أول الثمانينيات، حين سافر رامز مع تلك المرأة الخليجية أو "سبيكة" كما كانت تدعى. كانت سبيكة امرأة غنية أرملة تفتقد وجود أطفال في حياتها ولكنها تتوق أكثر النفوذ والسطوة؛ وباخذها رامز قد ظنت أنها قد قذفت عصفورين بحجر واحد، لكن هيهات! فان هدفها الاقوى من أخذه هو أن يخدمها، وليس لتبنيه فقط كما صورت للجميع؛ ولذلك قد استخرجت له بطاقة زيارة مؤقتة -قابلة للتجديد- لتتمكن من إدخاله بلدها كزائر لسهولة إجراءاتها القانونية، على أن يتم تغيير إقامته إلى خادم حين يبلغ السن المناسب، وهذا أيضًا لسهولة اجراءات الاقامة عن إجراءات التبني!
قد يظن البعض أن العشرة قد تغير النفوس، ولكن ما لا نستوعبه تماماً -او نتجاهله عمدا- هو أن العشرة تغير النفوس القابلة للتغيير فقط. وهذا بالفعل ما لم يحدث مع سبيكة، فرغم اشتياقها للأولاد لم تؤدِ دور الأمومة كما ينبغي - ان لم يكن قط ٌّ. فالشعور بالسلطة والقوة كان اشهى حتى في السنين الأولى مع رامز -وهي السنين التي يبنى فيها الشعور بالارتباط الأسري كما يقول علماء النفس- حين طلبت له مربية لترعاه مع أنه كان بإمكانها أن ترعاه بذاتها، ولكن لا إراديا كانت ترنو ناحية التسلط، هذا غير انها كانت تقضي معظم فترة الصباح مع صديقاتها خارج المنزل...
والبعض قد يسأل: كيف إذن اكتسب رامز اللكنة المصرية رغم تغربه وهو طفل؟ الإجابة بسيطة جدا؛ فالأفلام والمسلسلات المصرية آنذاك كانت أكثر شعبية و وفرة من غيرها، وسبيكة كانت تحرص -لا إراديا- أن تبقى هذه اللكنة عنده حتي لا ترتبط به كإبن؛ فكم من مرة حاول رامز أن يتحدث باللكنة الخليجية ولكنها اردعته بشدة مما زاد من حيرته كطفل في التعرف على حقيقة شخصيته؛ و من الطبيعي أن يزاوله الشك، فهو - للأسف- يعتقد انه ابن سبيكة، حيث يدعوها بـ"ماما" -وهي لم تمانع! فهكذا يدعوا الخدم سيداتهم في الخليج على أي حال. لكن مع كل ما تقدم أعلاه كان رامز يتقن اللهجة الخليجية بمهارة، حتى أن بعض الناس كانوا يظنونه من أهل البلد!
ويبقى سؤال آخر، لماذا لم تطلب سبيكة خادم او خادمة مثل بقية الناس بدلا من ان تستغل ضعف ذلك الطفل؟ أولاً لأنها كانت تظن انها تستطيع الجمع بين الرغبتين -الأمومة والنفوذ كما ذكرنا سابقا - وعندما فشلت، بدأت توزن الامور من الناحية المادية، فرامز مدفوع ومسدد الأجر، وعلي المدي البعيد ستدخر مبلغا كبيرا لن تدخره مع غيره من الخدم.
حين بلغ رامز السادسة من عمره، لاحظت سبيكة انه قوي وحريص في الأمور المالية؛ فعندما كانت ترسله لإحضار الاحتياجات المنزلية من البقالة التي تبعد بضع أمتار عن بيتها، كانت تراه يعطيها باقي المبلغ أكثر مما كانت تتوقع! فعلمت بعد فترة انه يفاوض البقال في الأسعار، وقد اكتسب هذه المهارة من كثرة مشاهدته للتلفاز والتي ساعدته أيضا على تعلم بعض الكلمات الانجليزية البسيطة. فرامز كان طفلا ذكيا قابلا للتعليم والتوجيه. ولكن من الذي يقوم بتعليم خادم عنده لمجرد اتقانه عمل ما؟ سبيكة كانت أول من فعل ذلك!
***
انزعج هادي جدا لسماعه كلام رامز المتناقض فعلق:
- طب اسمح لي يعني...منين خدام...ومنين كانت بتوديك مدارس؟
- برافو عليك صح...تيجي ازاي؟...ما أنا ماروحتش مدارس فعلا ، أنا كنت بتعلم من منازلهم...هناك فيه نظام دراسي اسمه منازل...ودا ليه؟...بس عشان اساعد اولاد صاحباتها في دروسهم واعمل لهم الواجبات...وطبعا بمقابل مادي لها.... مش عشان سواد عيوني يعني... يعني كانت بتكسب من ورايا... ومن غير ما اعرف...لحد ما جه يوم.... وعرفت....
يتبع في الحلقة التالية من العدد القادم