مينا ماهر يكتب: رواية كلمتين في حب مصر (٧)
مقدمة: كتبت هذه الرواية في عهد الرئيس محمد حسني مبارك وانتهيت منها قبل ثورة ٢٥ يناير بأسبوع!
المذيع هادي ابو الخير يقدم برنامجه الإذاعي "كلمتين فى حب مصر" وتلقى مداخلة من رامز المصري مشجعاً للهجرة وراوياً له عن والدته أم دنيا الخادمة (والأرستقراطية الأصل) التي باعت أطفالها بعد افلاسها ووفاة زوجها؛ وبيع رامز بدوره إلى سيدة خليجية أساءت معاملته، لكن تم ترحيله الى مصر بعدما أصبح شاباً، فبدأ يبحث عن والدته حتى عثر عليها، فنهرته بقسوة وأمرته ان يعود من حيث جاء لأنه يذكرها بماضيها الاليم؛ وبالصدفة تعرف على اخته دنيا هناك فأرشدته الى بنسيون متواضع تعمل فيه بعد يومها الدراسي!
حلقة ٧:
دنيا المصري، تصغر رامز بعام ونصف؛ تلميذة في المرحلة الثانوية في الصباح وعاملة نظافة بعد الظهر في البنسيون. بعد انتهاء يومها الطويل تمر على والدتها في جاردن سيتي لتأخذها ويذهبان سويا الي عشتهما في المهندسين. مراهقة في الخامسة عشر من عمرها، لكنها تتسم بحالة سبات نفسي إن صح القول؛ فهي أيضاً تعاني من قسوة امها لولا الصبر الذي قد وهبها الله إياه؛ ودون معونة الله لما استمرت دنيا ليومنا هذا! فإن كان هناك شخص ما يشفع لعواطف مساوئها فهو دنيا ابنتها.
عادت هي وأمها الي عشتهما ليلا ولاحظت دنيا ان امها ليست على ما يرام، فثمة شيء ما في صدرها. كانت دنيا تعرف تماماً ما هو، ولذلك لم تود أن تسأل فهي تعلم إجابة امها المعتادة:
- جري ايه يا بت؟ أنا كويسة جدا...ولا انتي حاتصاحبيني؟
وضع رامز رأسه على الوسادة تلك الليلة محاولا أن ينام ولكنه لم يستطع بعد كل هذه الأحداث السريعة والمتتالية، ولكن بعد فترة من الأرق السخيف، نجح أخيرا ان يخلد الى النوم. للأسف طاردته افكاره المؤرقة كأحلام: فأين سيسكن الآن؟ وهل سيستطيع ان يكمل تعليمه في مصر؟ هل كانت سبيكة محقة عندما انذرته أنه سيشتاق الى حياته في الخليج؟ من اين له ان يعيش؟ هل ستعود امه وتقبله لاحقاً؟ بحر لا ينتهي من الأسئلة الملحة التي نجحت أن توقظه أخيرا على طرقات باب غرفة البنسيون. استطاع رامز أن يتحرك بصعوبة تجاه الباب كي يجيب الطارق مرددا:
- ايوة .. اهو ...
فتح الباب ببطء ليري دنيا مبتسمه قائلة:
- صح النوم يا استاذ...
- اهلا يا دنيا... اتفضلي...هو انت مابتروحيش مدرسة ولا ايه؟
دخلت دنيا غرفته مجيبة اياه:
- مدرسة ايه يا استاذ الساعة ٣ الظهر؟!
- ياه...أنا نمت كل دا؟
- شكلك كنت تعبان! ها قوللي هتعزمني فين النهاردة؟
نشأت بينهما صداقة دافئة في وقت قصير. يومها ذهبا سويا لجروبي في وسط البلد. بالطبع لم يكن رامز ملما بمناطق وشوارع مصر، فكانت هي التي ترشده. تسامرا في شتى المجالات، ماعدا اي شيء يخص والدتهما. فرامز بكبريائه الوراثي كان يتحاشى تماماً أن يفتح الموضوع، وان فتحته دنيا -أو لمحت إليه- كان سرعان ما يقوم بتغييره. فهو لا يود أن يعود مرة اخري للمرار الذي عانى منه في الخليج، بل هذا عنده أكثر مرارة؛ فآخر شخص في الوجود كان رامز يتوقع أن يرفضه هو امه!
تكرر لقاء رامز ودنيا عدة مرات، نمت بينهما فيها مشاعر الأخوة بشكل ايجابي. في نفس الفترة كان رامز قد بدأ يختلط أكثر بالمجتمع المصري؛ وخاض صدام حضارات ضخم مما زاد من إحساسه بالغربة بشكل أكبر! فمثلا هو لم يعتد ألاعيب وغش الباعة المصريين، فبالرغم أنه كان ماهراً في التفاوض، إلا أنه لم يختبر غشا في الخليج. الغش في الخليج نادر جدا لان معظم البقالين والباعة ما هم الا اناس غير خليجيين يعملون تحت رحمة الكفيل، والكفيل هو المواطن الخليجي أو صاحب العمل الذي يكفل الشخص المقيم حين يصدر منه خطأ ما؛ وبناءً على نوع الخطأ، تتراوح النتائج ما بين طرد من العمل أو الترحيل من البلاد - وهو ما يحدث في اغلب الاحوال. فلا يرى المرء غشا تجاريا بشكل يومي كما هو في مصر. كما أن لا حاجة للغش في دول الخليج، لان أفقر فقير هناك يضمن أنه سيجد ما لا يقل عن دجاجة متوسطة الحجم ليأكلها هو وأولاده حين يعود إلى منزله. ولهذا كانت مصر لرامز مرحلة أدنى من الخليج خاصة أن ما يربطه بها -وهي أمه- أصبح في نظره غير موجود! قام باستخراج بطاقة شخصية لنفسه؛ ولأنه فشل أن يقدم شهادة قيد دراسي سجلوه في البطاقة كخادم كما هو مسجل في جواز سفره! كان هذا اللقب يثير غضبه جدا؛ فهو يطارده في كل مكان كاللعنة، وأحيانا كان يشعر انه وراثي؛ فمن تعرف عليهم من عائلته الى الآن يصنفون وظيفيا تحت هذا اللقب. كان رامز ناقما على أوضاعه آملاً أن يغير من حياته.
وبعد مضي وقت قصير بدأ يعمل مؤقتا في نفس البنسيون كموظف استقبال؛ فحضوره الملحوظ وثقافته، ساعدا صاحب البنسيون أن يستشف فيه القدرة على تحمل المسؤولية، فانعم عليه بالوظيفة -التي بلا شك أفضل من الخادم- الي ان يلتحق بمدرسة ما لينهي فيها آخر سنة دراسية له. وكانت الصدمة ان مصر لا تعترف بنظام المنازل الخليجي، مما زاد من ارق رامز وإحساسه أن مصر ليست مكانه، على الاقل في الوقت الحالي.
وفي يوم من الايام وقف رامز علي محطة اوتوبيس وإذ به يسمع دون تعمد حديثا جانبيا بين شخصين:
- مش السفارة الامريكية فاتحة باب الهجرة باللوتري!
- يا عم هو إحنا قد امريكا؟!
- وانت خسران ايه؟ ماتقدم!
- وانت ماتقدمش ليه؟
- يا عم أنا خلاص راحت علي...
- يعني أنا يعني اللي باقول يا هادي...
لم يستطع رامز الا ان يدخل في الحديث:
- معلش اعذروني أنا كنت سامعكم...ايه اللوتري دا بالظبط؟
أجابه أحدهم:
- دي هجرة غير مشروطة مجانية، امريكا بتعملها عشان تدي فرصة للناس اللي مش موافية المواصفات انها تهاجر امريكا والمحظوظ بقى يرسي عليه اللوتري.
فجأة بدأ كل شي يتغير في عيني رامز وكأن بارقة امل قد ظهرت في الأفق، فهل يا ترى سيحالفه الحظ ام سيبقى حاله على ما هو عليه؟ أيا كانت النتيجة، فسيكفيه شرف المحاولة. وإذ به قرر فجأة ان يوقف سيارة أجرة، وما ان ركب حتى قال للسائق:
- السفارة الامريكية ...لو تسمح!
ستة أشهر كاملة قضاها رامز في مصر المحروسة دون جديد لا من قريب ولا من بعيد. كان الوقت يمر ببطء لا يوصف، ولولا اتصاله الدائم بأخته لما استطاع أن يصبر! هو في موقف لا يحسد عليه: فهو يعمل في وظيفة لن تدوم، مع أن عائدها قد يساعد نسبياً في مصاريفه اليومية، و لا امل له أيضا في التعليم المصري مطلقاً، و بالطبع لن يحاول مقابلة والدته من جديد! و ما أسخف الانتظار في ذروة الشغف في الرحيل. كل هذه الأمور المعقدة قد حالت بينه وبين المعيشة في مصر إلى أن دخل يوما هذا الرجل الى البنسيون مناديا:
- رامز المصري
أجابه رامز من خلف مكتب الاستقبال:
- أفندم؟
- امضي هنا...جايلك جواب!
***
تعجب مذيعنا السيد هادي ابو الخير مما رواه رامز فسأله؟
- الله! هو انت هاجرت امريكا ولا كندا؟
- لا اول ما هاجرت رحت امريكا باللوتري...
- كان عندك كام سنة؟!
- ١٨، ١٩ سنة كدة!
- كان سهل عليك انك تسيب والدتك و اختك كده؟
- اولا والدتي هي اللي مادتنيش وش، وبعدين أنا ما كنتش نايم في حضنها العمر كله وبعدين سبتها! ماتنساش انا متغرب من صغري!
- طب ودنيا؟
يتبع في الحلقة التالية من العدد القادم