مينا ماهر يكتب: رواية كلمتين في حب مصر (9)
مقدمة: كتبت هذه الرواية في عهد الرئيس محمد حسني مبارك وانتهيت منها قبل ثورة ٢٥ يناير بأسبوع!
المذيع هادي ابو الخير يقدم برنامجه الإذاعي "كلمتين فى حب مصر" وتلقى مداخلة من رامز المصري مشجعاً للهجرة وراوياً له عن والدته أم دنيا الخادمة (والأرستقراطية الأصل) التي باعته هو وباقي اخوته وهم أطفال، وحين أراد أن يعود إلى والدته وهو شاب، رفضته، لكن بالصدفة تعرف على اخته دنيا ونشأت بينهما علاقة أخوية جميلة لكن مستترة؛ وبعد ان اكتشف ان حياته في مصر لن تطور من نمط حياته، هاجر إلى الولايات المتحدة الامريكية ومن بعدها كندا وعمل كطبيب هناك! لكن المذيع هادي ابو الخير استفزه بشدة وسخف من اسبابه لطلب الهجرة!
حلقة ٩:
عاد هادي ابو الخير علي الهواء فور انتهاء الفاصل الغنائي مواصلا حديثه مع رامز الذي ظل علي الخط دون ملل، راغبا في الاستمرار في الحديث:
- استاذ رامز إحنا اسفين اذا كنا ضايقناك، ونرجو انك ماتكونش زعلت! إحنا هدفنا من البرنامج هو عرض الحقائق للمستمع، عشان مصداقية البرنامج...
هدأ حمو غضب رامز بعد الفاصل الغنائي فواصل حديثه:
- ما فيش مشاكل...ومع ذلك اذا كنت عايز اسباب اوجه... فانا لسه ماخلصتش كلامي…
ابى هادي أن يقع فريسة لهذه الإجابة على الاقل في الوقت الحالي، فوجه الحوار في اتجاه اخر قائلا:
- استاذ رامز ... رغم كل اللي انت حكيته دلوقتي عن ماضيك...إحنا مالحقناش نتعرف عليك ...تقدر تعرفنا بنفسك....
لم يتخيل هادي للحظة ما قاله رامز عن نفسه ردا على سؤاله، فقد ظن ان من يحدثه مجرد شخص بسيط ارتقى من مرتبة خادم إلى مرتبة موظف مثلا، فنراه يحدق المخرج بـنظرة مندهشة حين قال رامز:
- يا سيدي أنا الدكتور رامز المصري... جراح انف وأذن وحنجرة!
- لا موآخذة يا دكتور رامز... وانا عمال أقول لك استاذ من الصبح...
- يا سيدي مشيها من غير القاب احسن...رامز بس كفاية..
- طب يا دكتور... ما فكرتش طول السنين اللي قضيتها في الغربة، تنزل مصر؟
- مين قال لك؟ بعد ما خلصت الطب في اوائل الالفينات...حسيت بعدها بحنين غريب لمصر...ودنيا اختي.... وما اكدبش عليك لأمي كمان.
- غريبة! بعد اللي عملته معاك؟!
- الزمن برضه بيغير يا هادي...وانا ظروفي اتحسنت، وحسيت ان ممكن اصلح من ظروف امي كمان ونبدأ صفحة جديدة...
- خطوة جريئة...ها طيب وهل ياتري سافرت؟...
- لا...بس كنت مسافر فعلا في ٢٠٠٣.. لحد ما عرفت اللي حصل....
***
في ديسمبر يكون الجو مقبولاً في دولة الكويت، فدرجة الحرارة تتراوح عادة ما بين ١٠ إلى ١٥ درجة سيليزية صباحا مما يقلل من الضغوط النفسية على العامة ويزيد من رحابة صدرهم. على نقيض الصيف، فدرجة الحرارة قد تصل الى ٥٠ -وأحيانا ٦٠- درجة سيليزية، جالبة ضيق الخلق وانعدام الصبر. فكذا كان شتاء ٢٠٠٣ شتاءً معتدلاً وآمنا. ولهذا خرج خليل من شقته الصغيرة في منطقة السالمية متجها الى محطة الباص وهو منتعش بالمناخ العام، فهو كعادته يذهب صباحا لكفيله الكويتي جاسم حمادة ليسلمه عهدة الليلة السابقة من إيراد محل البقالة. فخليل عبده المصري بقال أمين وبسيط كمعظم المصريين المغتربين، وان كنت لم تلحظ اسمه فهو أحد إخوان رامز ويكبره بخمس سنوات.
بيع خليل كبقية إخوته عندما كان سبع سنوات ونصف، لذلك كان أكثر إدراكا من رامز لما يحدث من حوله آنذاك، فقد شهد صفقة بيعه بنفسه، مما زرع فيه مزيجاً غريباً من الغضب والخضوع. اشتراه أحد رجال الاعمال في مصر وقتها كمساعد جنائني، وبعد عدة سنوات من الخدمة ناداه سيده:
- أخبارك ايه يا خليل؟
- تمام يا سعادة البيه!
- تحب تسافر يا خليل؟
- اللي تشوفه يا بيه!
- خلاص... أنا اتفقت مع واحد صاحبي في الكويت انه يمشيلك في اجراءات السفر للكويت..
- هو أنا زعلت حضرتك في حاجة يا بيه؟
- زعلتني ايه يا عبيط؟ دا أنا باعمل فيك معروف. الكويت بلد ليها مستقبل كبير، دا غير ان هناك فيه مصريين كتير فمش حاتحس بالغربة...
ان رجال الاعمال مما لهم من علاقات ونفوذ واسعة، يقومون بإهداء بعضهم البعض مراكب ويخوت، او بيوت وقصور، وأحياناً قوى عاملة أيضاً! وكله في سبيل إبقاء العلاقات التجارية. وهكذا سافر خليل إلى الكويت ليعمل في بقالة جاسم حمادة. وبعد تسليم العهدة في الصباح الباكر من كل يوم يذهب خليل الى البقالة ليفتحها ويبدأ يومه! ولكن لم يكن يوم الأربعاء الموافق ٢٤ ديسمبر ٢٠٠٣ كمثل باقي ايام الشتاء السكينة؛ فعندما دنت الساعة الثامنة مساءً، دخل البقالة خمسة مراهقين فلسطينيين لم تبدو عليهم أية شبهة قط، فهم في الحقيقة كثيري التردد على البقالة ومألوفي الوجه لدي خليل، لكنهم انتشروا ليلتها داخل البقالة بشكلٍ مريب وإذ بأحدهم يستدعي خليل:
- يا معلم، عندي سؤال!
ذهب اليه خليل قائلاً:
- ايوة؟
وسرعان ما أحاط به بقية الغلمان وخلعوا احذيتهم وبدأوا ينهالون عليه ضرباً حتى نزف الدمٍ من تحت جفن عينه اليمنى. حاول أن يستغيث ولكن ليس من مغيث عدا خط الدم السائل على خده! فما إن رآه المراهقون يتدفق حتى ركضوا سريعاً خارج البقالة قائلين له:
- تستحق أيها الخائن...
لم يستوعب خليل تماماً ما قالوه، حيث كان شبه فاقد للوعي؛ و ما ان التقط انفاسه حتى ارتمى أرضا في سبات عميق...
قد يبدو هذا الاعتداء الغوغائي مجرد حادث شغب، ولكن في حقيقة الأمر كان له أبعاد سياسية؛ ففي اليوم السابق قام وزير خارجية مصري بزيارة القدس بهدف مباحثات السلام بين إسرائيل وفلسطين، كما جرت العادة أن مصر تلعب دور حمامة السلام في الاشتباكات العربية الإسرائيلية. وحين دخل الوزير المسجد الأقصى التف حوله بعض الفلسطينيين ونازلين عليه بأحذيتهم ضرباً وداعيينه بالخائن، وقد أصيب الوزير بالإغماء بعدها ونقل رأسا للعلاج.
ان الشعب الفلسطيني لا يستحق منا الا كل الاحترام…وليس الشفقة كما يظن البعض! فبالرغم من كل ما يتعرض له هذا الشعب من ظروف صعبة، إلا أنه شعب قوي (وشديد البأس) وبإمكانه أيضاً الوقوف وحده في وجه أعدائه الصهاينة دون الحاجة الى بقية العرب! ولكنه للأسف أحب -إعلاميا- دور الضحية! فان تعاملت مع أحد الفلسطينيين -رجل كان أو امرأة- فلن تشعر للحظة بأنه شخص مهيض الجناح؛ على العكس، فهم أفراد نابغون وناجحون في جميع المجالات، ولكن قد يؤدي بهم كبرياءهم أحياناً إلى التحقير من شأن الاخرين -وبالأخص المصريين- دون أي اعتبارات تاريخية أو شخصية! وقد يصنف الاعتراف بالجميل عند بعضهم إنكساراً، وحاشا لهذا الجنس أن ينكس رأسه لأحد! فحتى وهم يعانون من احتلال غاشم، لا يزالون ينعمون بذروة الحظ! فاحتلال الإسرائيليين (والإسرائيليين بالذات) لأرضهم، هو سبب تعاطف العرب والعالم الإسلامي كله معهم -وليس حباً فيهم! فلم يحالف نفس الحظ دولة الكويت المسكينة مثلاً حينما احتلتها العراق في أغسطس ١٩٩٠، وقسم العرب نتيجة ذلك إلى فرقتين (فرقة مع وفرقة ضد). وكان أصدقاؤنا الفلسطينيون على رأس مؤيدي الاحتلال العراقي للكويت آنذاك، وقتما قام زعيم المنظمة الراحل ياسر عرفات بسب رئيس الجمهورية المصري على الملأ لوقوفه ضد العراق! فما حدث إذن لوزير الخارجية المصري ولخليل المصري في ٢٠٠٣ ما هو إلا أحد المواقف التي تثبت جرأة وجبروت هذا الشعب.
آفاق خليل في اليوم التالي ليجد نفسه راقدا في المستشفى وأمامه كفيله جاسم، فقال له جاسم:
- عسى أن يكون قد أصابك مكروه يا خليل؟
- هو ايه اللي حصل يا حاج جاسم؟
- لم تأت هذا النهار، فذهبت إلى حيث تسكن فلم أجدك، فتوجهت راساً الي البقالة وإذ بك مغشيا عليك ودمك يسيل!
تذكر وقتها خليل ما حدث فانفرط في بكاءٍ هستيري وهو يدمدم:
- أنا أتمسح بكرامتي الارض...كسروا عيني ولاد اللذينَ!
قام جاسم بتهدئته وجلس يسمع منه ما حدث؛ فانزعج جاسم جدا وقرر ان يحرر بلاغا في نقطة الشرطة، ولكن خليل أبى لخوفه من الفضيحة وطلب منه مهلة ليفكر في الأمر. لحسن الحظ أن خزينة البقالة لم تسرق، والا ما كان جاسم قد توانى للحظة في إبلاغ الشرطة.
عاد خليل في نفس اليوم لمنزله بعدما أمره جاسم أن يأخذ اليوم كراحة حتى تستقر حالته النفسية، ولكن هيهات! لم ينس خليل ما حصل له حتى بعد ان عاد الى العمل. فكان يهيم بخياله بعيداً احيانا، ثم ينفجر فجأة في البكاء. بعد أربعة أيام من عودته إلى العمل، ذهب مسرعا ليلاً إلى أقرب سنترال في المنطقة طالباً أن يكلم ام دنيا هاتفياً؛ كان خليل يتابع خُطى والدته عن بعد منذ كان في مصر، ولبساطة قلبه كان يكلمها من وقت لآخر رغم معاملتها الفجة معه! وعندما كان يتعسر عليه أن يجدها او يحصل على رقم هاتفها، كان سيده رجل الاعمال المصري لا يعجز في أن يحصل عليه ويدلي خليل بالمعلومات اللازمة. وها هو مرة أخرى يعيد الكرة ليشكو لها حاله. ظل الخط يرن مراراً حتى أنه ظن أنها غيرت رقم هاتفها، ولكن ما لبثت أن أجابت أخيراً:
- الو...
- ايوة يا امه..
- امه؟ مين معايا ؟
- أنا خليل يا امه
أدركت عواطف صوته على الفور فقالت في برود:
- نعم يا خليل...هو انت في مصر؟
أراد خليل أن يتمالك نفسه امام امه، ولكنه فشل فبكى مرة اخرى قائلاً:
- انا انكسرت يا امه، أنا أتمسح بكرامة اهلي الأرض هنا في الكويت، تصوري يا أمة جماعة فلسطينيين نزلوا في ضرب بالجزم وانا بأشتغل لحد ما خريت الدم!
للحظة عابرة شعرت عواطف بهاجس الأمومة الفطري ولكنها خنقته في التو وقالت:
- طب ما تعيطش زي النسوان كده... هو حصل ايه يعني؟
- أنا عايزك تاخديلي حقي يا امه!
- اخدلك حقك يعني إيه يا ولا...لا هو انت فاكرني مين ...دا الوزير نفسه ماحدش اخدله حقه
- طب أنا راجع مصر، حاكلم اصحاب الشغل و اصفي حسابي، انا كرامتي اتهانت يا امة هنا!
- لا اترزع عندك...ترجع إيه؟ ما كرامتك...متهانة هناك وهنا...انت فكرك يعني أن هنا احسن... اسمع تروح لصاحب الشغل تحب علي ايديهم...وتقولهم ان ماحدش مد ايده عليك...وانه كان بيتهيأ لك...دا الوزير بجلالة قدره عمل كده برضه و نفى الاعتداء... ولا انت احسن مالوزير يا روح امك..
اغلق خليل الخط آسفاً بعد سماعه ما قالته امه، وعاد إلى منزله شارد الذهن. بينما خلدت ام دنيا الى فراشها بعد انتهاء المكالمة، ولكن سرعان ما استوقفتها إبنتها دنيا قائلة:
- مين اتكلم يا امه؟
- نامي يا بت..مش وقته دلوقتي. الصباح رباح!
- كنت بتكلمي حد من اخواتي، صح؟
انفجرت فيها أمها بينما كانت تحاول جذب الغطاء عليها قائلة:
- اه حد من إخواتك يا ست دنيا...ارتحتي؟ خليل أخوكِ الفلسطينية ضحضحوه في الكويت، بس اعمله ايه يعني، هو مش صغير.... خلاص؟! اتخمدي بقى!
في صباح اليوم التالي وقف خليل امام جاسم كفيله الذي بادره بسؤال:
- امازلت عند رأيك بأن لا تحرر محضراً رسمياً في الواقعة؟
بلع خليل ريقه وقال:
- واقعة ايه يا حج؟
- الضرب الذي تعرضت له؟
- ما فيش حد ضربني يا حاج! دا أنا وقعت يومها من التعب!
غضب جاسم جدا عند سماعه إجابة خليل فعنفه قائلا:
- هل تسخر مني يا خليل؟...أنا أعلم أنك تكذب، ولا اعلم لصالح من! ليلحق بك ما يلحق من الآن فصاعداً إذن...ولأنك تكذب ستتحمل نتيجة كذبك وسيخصم لك من راتبك ذلك اليوم الذي تغيبته، بالإضافة إلى سقوطك من نظري الى الأبد...لقد خذلتني يا خليل!
كان رامز وقتها في منزله في كندا، يهم بكتابة قائمة المشتريات التي سيشتريها قبالة سفره إلى مصر، وإذا بالهاتف يرن، فأجابه رامز تاركا ما كان بيده:
-الو؟
- ايوه يا رامز ...أنا دنيا!
يتبع في الحلقة التالية من العدد القادم.