مينا ماهر يكتب: رواية كلمتين في حب مصر (10)
مقدمة: كتبت هذه الرواية في عهد الرئيس محمد حسني مبارك وانتهيت منها قبل ثورة ٢٥ يناير بأسبوع!
المذيع هادي ابو الخير يقدم برنامجه الإذاعي "كلمتين فى حب مصر" وتلقى مداخلة من رامز المصري مشجعاً للهجرة وراوياً له عن والدته أم دنيا الخادمة (والأرستقراطية الأصل) التي باعته هو وباقي اخوته وهم أطفال، وحين أراد أن يعود إلى والدته وهو شاب، رفضته، لكنه تعرف على اخته دنيا في الخفاء؛ بعدها هاجر وعمل كطبيب في كندا! وكان يود ان يزور مصر، لولا أن حادث سخيف لحق بخليل، أحد إخوانه في الخليج، مما أزعجه جداً فصرف نظره عن زيارة مصر!
حلقة ١٠:
كان المخرج يرسل إشارات كودية لهادي عبر النافذة لإخطاره بما يريد، فلا يقطع الحوار المباشر على الهواء، ففهم هادي الرسالة فوراً وقال لرامز:
- دكتور رامز....المخرج شكله معجب بحكايتك...وعايز يكمل معاك بوقت إضافي...عشان فيه ناس كتيره بتسمع وعندها مداخلات..وبالمناسبة دي معانا مداخلة من شوقي فريد...اتفضل اتكلم استاذ شوقي، ودكتور رامز معانا عالخط.
بدأ شوقي مداخلته قائلاً:
- علي فكرة الاخ رامز لمس موضوع خطير جدا...وهو ان العرب مش بيحبوا المصريين لله في لله كده...بينهم وبيننا إيه ما تعرفش! مع الفارق بقي في بلاد برة، حتي لو فيه تفرقة ما بتحسسكش بانك مقهور.. انا اخويا مهاجر و بيحكيلي.
فأجاب هادي:
- احنا برضه مش عايزين نعمم ...بس ممكن نقول فعلاً ان فئة من العرب يكونوا كده فعلا ...لكن برضه مش عايزين نشت عن موضوعنا...أشكرك أستاذ شوقي!
انتهت مداخلة شوقي فريد فاكمل هادي حواره مع رامز:
-ايوة يا دكتور رامز ... لسه معانا؟
رد عليه رامز:
- ايوة معاك
- أتفضل...حصل إيه بعد حادثة الوزير وخليل؟
- أبدا بعد ما حكيتلي دنيا الحكاية اكتئبت جداً وغضبت على نزول مصر...بصراحة نفسي اتسدت...
- ليك حق...بس انت مش شايف إن دا مش سبب كافي يخليك ماتنزلش خالص..
- أنا ما قلتش اني مانزلتش خالص ... في ٢٠٠٥ كنت نازل، وحجزت فعلا...وكنت حاجز في شرم يومين كمان..
***
شرم الشيخ هي مدينة منتجعات سياحية عالمية، يأتيها المصريون والسياح من مختلف دول العالم، خاصة في يوليو وأغسطس، حيث تصل حرارة الشمس ذروتها؛ ولهذا قرر ريتشارد براون أن يهرب من ضوضاء مدينة القاهرة وضيق النفس المتعارف عليه في شهر يوليو، ليقضي اسبوعاً لطيفاً مع زوجته في شرم مصطحبا معه خادمته ام دنيا.
لم تكن تلك هي المرة الاولى التي تذهب فيها ام دنيا الي شرم الشيخ؛ فهي عادة سنوية يقوم بها سيداها في نفس الوقت من العام تقريبا. بلا شك أم دنيا قد تمتاز عن غيرها من الخادمات بعملها عند أسرة أمريكية؛ فسيداها يعاملاها بطريقة مهذبة غير متعسفة؛ قد يغضبا احيانا منها ولكن في حدود الأدب، رغم سلاطة لسان ريتشارد.
كانت عواطف - الأرستقراطية الأصل- تعرف الانجليزية جيداً مما أهلها على التعامل عندهما، كما أن وجود ريتشارد وامرأته في قلب القاهرة لفترة طويلة ساعدهما على إجادة اللغة العربية إلى حد ما. وهكذا وجدوا جميعا وسطًا مريحاً للتفاهم. ومن هنا نعلم أن ام دنيا خادمة استثنائية، فهي تستلم دخلها الشهري بالدولار وتدخر ثلثيه وتصرف من الثلث الباقي؛ هذا غير الرحلات الداخلية السنوية الى شرم الشيخ وأحياناً خارج البلاد؛ ومع هذا، قررت ان تسكن في عشة فقيرة فوق السطح كنوع من التدبير. وعلى خلاف ما تعرفه عن ام دنيا من تمرد وسخافة تجاه أولادها، إلا أنها تكاد أن تختلف تماماً الى حد الفصام حينما تتعامل مع رؤسائها؛ فهي خادمة أمينة، خاضعة وتهاب اسيادها إلى أبعد الحدود!
في الماضي، كانت عواطف تصطحب ابنتها الصغيرة دنيا معها وقتما كانت تسافر، ولكن بعدما بلغت دنيا ووظفت كممرضة، أستقلت بعض الشيء عن والدتها. فقد أكملت دنيا دراستها بمعهد التمريض، وكانت تعمل نهارا وليلا، حتى تعول نفسها وأمها أيضاً إن لزم الأمر.
كان ريتشارد يعمل لحساب نفسه كمستورد أطعمة لمدة ١٤ ساعة يومياً، ويعطل يوما واحداً في الاسبوع وهو الأحد. فكانت فترة استجمامه الصيفية تحتل قدسية خاصة عنده. فما أفضى باله عندما يجلس على ضفة خليج نعمة ليصطاد، وقد يستغرق ذلك ساعات ليست بقليلة؛ أما امرأته فتستمتع بالاسترخاء على الشاطئ لتصطلي من أشعة الشمس. كان اليوم سبتاً وهو عادة يوم الأسبوع الذي ترى فيه وجوه المصطافين تتجدد -أو تتغير تماما! لذلك هو يوم يكتظ بالناس الظمآنة لمياه البحر، فنرى الشواطئ مغطاة بالبشر في منتصف النهار! فقرر ريتشارد أن يتوقف عن الصيد الذي أصبح غير مجدي وسط هذه الضوضاء وأن يذهب هو وزوجته للتسوق في البازار في وسط البلد. المناخ العام كان ساكناً مطَمْئناً، ولكنه سرعان ما تحول إلى دمار شامل! عدة انفجارات حدثت في شرم الشيخ يوم ٢٣ يوليو ٢٠٠٥ أسفرت عن مقتل ٨٨ شخص (اغلبهم مصريين) وإصابة ٢٠٠ غيرهم. انقلب الاستجمام إلى مذبحة، واختلط الحابل بالنابل، جثث ودماء بريئة في كل مكان. ووجد ريتشارد وامرأته غارقين في دمائهما في منتصف أرض البازار.
اما ام دنيا، ذات السبع أرواح، فقد اعتذرت يومها لمدام براون عن القدوم لتنتهي من تنظيف شاليههما الخاص والذي لا يبعد كثيرا عن مكان الانفجار؛ ومع هذا لم تسمع ام دنيا الا دوي بسيط، ظنته حادث على الطريق، حتى امتلأ الشاليه برجال الأمن والشرطة لإكمال تحرياتهم عن الحادث وأخذ أقوال أم دنيا!
بعد أن أُخذت أقوالها، عادت الى القاهرة وهي في غاية السعادة! لا شك أن من ينجو من مثل هذه الحوادث، يكتب له عمرا جديدا يستحق الابتهاج، ولكن لم يكن هذا هو سر سعادتها، بل الكراهية الشديدة التي يكنها معظمنا للغرب والامريكان على وجه التحديد! فقد اتفقنا جميعاً كعرب على هذا البغض، والفضل يعود طبعاً الى وسائل الاعلام وأجهزة التعليم، بالإضافة الى نظرية المؤامرة التي نحياها يومياً ونؤمن بها بشكل فطري! وأم دنيا، كغيرها من عامة الشعب، كانت تتشفى بمقتل سيديها، مصدر رزقها، رغم حسن معاملتهما لها، وهو أمر يستدعي الاستنكار بكل تأكيد! فبالاضافة الى كونهما أمريكيّن، فهي بالفطرة أيضاً تكره أي شخص يذكرها بذلها الواقع!
دعت كل صديقاتها وجيرانها على السطح بعد ان اعدت السطح للاحتفال فور عودتها من شرم الشيخ. فأسدلت الأنوار الملونة على الحائط واستأجرت مشغل أقراص بسماعات للعب الاغاني. والى هذا الحد -للأسف- يفرح الشعب الغشيم بموت الأبرياء لمجرد أنهم امريكيو الاصل!
كانت دنيا تساعد والدتها في تجهيز وتقديم الشربات بينما أشرفت عواطف على الترحيب بالمدعوات. رغم دناءة قصد الدعوة، الا ان العزيمة والحضور كانا ممتعين لكل من كان هناك؛ كانت ام دنيا تضحك مع الجميع، وتهذي احيانا بكلام خارج -لا يصح أن يقال على الملأ- مع النسوة المقربين منها. وفيما كانت تتراقص وهي تتنقل من مجموعة الى اخري حاملة في يدها كوب الشربات، رأت شبح رجل عن بعد يتحرك ناحيتها لم تستطع ان تميز من هو من الظلام مما اثار فضولها، فأسرعت نحوه حتى أصبحا قبالة بعضهما، وعندها سقط من يدها كوب الشربات وقالت:
- عادل؟!
***
لم يكن عادل يتوقع للحظة أنه سيرى والدته ثانيةً، فهو أكبر إخوانه سناً وأكثرهم نقماً على أمه، حيث انه كان في الثانية عشر من عمره حين قررت ام دنيا تخليته. فما كان عليه آنذاك إلا أن يهرب ليلا قاصداً الاستاذ عبد العليم عطية، مدرس الرياضيات صديقه. نشأت بين عادل واستاذه صداقة عن طريق المدرسة، فعادل كان متفوقاً في الحساب، وهكذا بدأت صداقتهم.
فوجئ عبد العليم بطرق شديد على باب شقته في ساعة متأخرة من الليل، ففتح ليرى عادل منهارا في البكاء؛ فتحنن عليه وادخله شقته وهو في غاية القلق والحيرة، وسأله:
- خير يا عادل يا حبيبي ... انت كويس؟
- امي يا استاذ عبد العليم ...عايزة تبيعني!
- بتقول ايه؟!
- سمعتها بتتفق مع ناس عشان تسربني من البيت! عشان كده هربت و جيتلك!
- انت متأكد؟ مش يمكن بيتهيألك؟
- ايوة متأكد..أنا سامعها بوداني...
- طب خش نام عندي جوة دلوقتي وبكرة نشوف الموضوع دا!
لم يكن صعباً على عبد العليم ان يقبله عنده، فهو اعزب و قد كرس حياته للعلم، ولكنه كان متهيباً مبيته عنده دون علم والدته مما سيعرضه للمسائلة القانونية، لذلك قرر ان يأخذ عادل في الصباح الباكر لمقابلة عواطف امه. ذهبا سويا الي حيث كانت تسكن ام دنيا و طرق عبد العليم الباب؛ كانت الساعة السابعة و النصف صباح يوم جمعة، ففتحت عواطف الباب وهي شبه نائمة تفرك عينيها، و ما ان رأت استاذ عبد العليم ومعه عادل حتى انفرجت مقلتاها محاولةً الاستيقاظ، و وجهت له سؤالاًً:
- نعم؟ مين حضرتك؟ والواد دا ايه اللي جابه معاك؟
ثم التفتت عفويا الى عادل الذي كان ينظرلها حانقا وقالت:
- انت مش في سريرك ليه يا ولا؟ وطلعت أمتى من البيت؟
تدخل عبد العليم وقال:
- حلمك عليه شوية يا مدام. عادل كان بايت عندي!
- عندك يعني ايه؟! وانت تطلع مين بسلامتك؟
- أنا استاذ الحساب بتاعه...عادل جالي بالليل وفاكر ان حضرتك بتفكري تبيعيه لحد!
ما ان سمعت ام دنيا هذا الكلام حتى ارتبكت وخطفت الولد من يده واحتضنته بين ذراعيها -او قيدته ان صح التعبير- واجابت عبد العليم:
- يا لهوي... هو في حد يبيع عياله يا استاذ؟
ثم نظرت نحو ابنها الذي بين ذراعيها وقالت له:
- معقولة يا عادل تفتكر أنا اعمل كده؟ معلش لي حساب تاني معاك.
فقال عبد العليم وقد اطمأن:
- الحمد لله، أنا كان قلبي حاسس انه سوء فهم! استأذن أنا يا فندم وأسف للإزعاج... سلام يا عادل... ماما بتحبك يا حبيبي...
وانصرف الى منزله بعد ان أراح ضميره. اما عواطف فقد ادخلت ابنها الشقة وعنفته بعد ان صفعته صفعة قوية قائلة:
- يا ابن الكلب...بموتك لو رحت المدعوقة المدرسة دي تاني!
وتمت البيعة فعلاً في اليوم التالي لاحدى السيدات الثريات كمساعد سفرجي...
تغيب عادل عن مدرسته أسبوعين كاملين مما اثار الشكوك عند عبد العليم عطية فبادر عواطف بزيارة مفاجأة، وما ان رأته على الباب حتى قالت:
- اهلا!
- اهلا ...أنا مدرس الحساب بتاع عادل.
- ايوة فاكراك...يلزم خدمه؟
- أنا بصراحة جاي اسأل على عادل... اصل بقاله اسبوعين غايب.
- ماكانش يتعز... اصل عادل عقبال املتك بيشتغل، وساب المدرسة.
- ساب المدرسة ليه؟!
- اصل لامؤاخذة طلع مالوش في العلام قلنا نجرب يمكن يفلح في حاجة تانية.
- ازاي حضرتك مالوش في العلام؟... أنا عارف مستواه كويس!
- انت حتفتحلي محضر؟ فوتك بعافية!
اغلقت الباب بشدة في وجهه فما كان عليه الا ان عاد من حيث جاء مكتئبا على عادل الذي خسر مستقبلاًً واعداًً أمامه.
ان مجانية التعليم التى نادى بها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والتي أدت بمساواة أبناء الاثرياء بأبناء الفقراء، لم تكن بفكرة صائبة مئة بالمئة من وجهة نظر بعض الناس؛ فبالرغم من نبل مقاصدها إلا أن مع تغير الزمن الجميل إلى زمن قد تكون الأمية فيه مطلوبة أكثر، قد غدى العلم سلاحا ذا حدين! فإما أن يكون التعليم سطحيا جدا، لا يؤهل صاحبه أن يكون مفكرا أو مدققا فيما حوله (وهذا لا ضرر منه بالطبع)؛ أو أن يشكل التعليم خطراً على من هم مستفيدون من بقاء الناس في ظلمات الجهل، حينما يصبح المتعلم قادرا على التمييز ما بين الخير والشر، الجمال والقبح، والحب والكراهية. فان دق العلم أجراس الإنذار، فلابد من التصرف السريع! لذلك عرضت ام دنيا عن تعليم عادل، بينما لم تمانع بتعليم إبنتها دنيا التي ترى فقط كل ما حولها من خيرٍ وجمالٍ وحب.
كانت فكرة الهرب مازالت تراود المراهق عادل، ولكنه كان ينتظر اللحظة المناسبة؛ وحين أمره مراقبه يوماً بالذهاب إلى سوق الخضار لشراء بعض اللوازم، ما لبث أن ركض رأسا الى بيت أستاذه عبد العليم وانتظر امام باب شقته إلى أن عاد من المدرسة.
لم يخطر على مخيلة ام دنيا انها ستحظى بمقابلة السيدة الثرية التي اشترت عادل مرة أخرى! فسرعان ما اكتشفت السيدة هروبه حتى ذهبت الى حيث تسكن عواطف وهي تكتظ غيظاً قائلة لها، بعد أن أدخلتها ام دنيا الشقة خوفا من الفضائح:
- هو دا الولد المطيع الأمين يا ست عواطف؟؟
- هو حصل ايه بس يا ست هانم؟
- حصل ايه؟ ايوة استعبطي...هو يعني ابنك لما هرب مارجعش عليكي؟!
- والله العظيم ما شوفته ولا اعرف انه هرب!
- قصر الكلام زي…ما دخلنا بالمعروف نخرج بالمعروف!
- يا ستـ...
قاطعتها السيدة فوراً:
- ايدك على الفلوس!
كانت تعرف ام دنيا تماماً الى اين هرب ابنها ولكنها لم تهتم بان تطالب باسترجاعه! و لم تناشد الشرطة بأن تتدخل، بل اطمأنت أنه مقيمٌ عند أستاذه واستعوضت الله فيه.
كان الاستاذ عبد العليم أباً بكل معاني الكلمة، فربىّ عادل وأنفق عليه إلى ان قُبل في كلية التجارة قسم المحاسبة. كان يوم رحيله عن العالم قاسياً جدا على عادل، ولكنه كان مرتاحاً أن أستاذه (ووالده) قد رحم أخيرا من عذاب مرض السرطان، الذي صاهره في آخر سنتين. تزوج عادل وأنجب طفلين وسافر الى العراق هو وعائلته ليعمل محاسباً في إحدى مزارع محافظة الموصل، وهي محافظة في شمال العراق، بعيدة نوعاً ما عن التوتر السياسي آنذاك. قد عاصر عادل وقتها توابع حرب الخليج وسقوط بغداد؛ لم تعد العراق الدولة المثالية للمعيشة بعد كل ما أصابها، ولكن ما كان باليد حيلة، فإما أن يقطع عادل رزقه ويعود الى مصر ليبدأ من الصفر أو أن يظل هو وعائلته في العراق! فسلم أمره لله وقرر ان يبقى في الموصل. وفي ليلة من ليالي يوليو ٢٠٠٥، كان عادل جالساً مسترخياً في منزله يشاهد الفضائيات، واذ به يصرخ مندهشا مما شاهده:
- يا نهار اسود! هي حصّلت!؟
هرعت اليه زوجته مسرعة من الغرفة قائلة:
- مالك يا عادل؟ خير؟
- إحنا مالناش قعاد في البلد دي!
يتبع في الحلقة التالية من العدد القادم