مينا ماهر يكتب: دردشة بالعربي الفصيح ... يوتوبيا حقيقية أم مجرد ركوب أمواج؟!
بقلم: مينا ماهر
في الصيف الماضي، دعاني أحد أصدقائي لحضور حفل استلامه الجنسية الكندية؛ ولأنه كان موافق يوم استقلال كندا، فكان احتفالاً كبيراً تضمن العديد من الخطب والاستعراضات! وها هي الفقرات الرئيسية للاحتفال: افتتح الحفل بكلمة وصلاة من أحد شيوخ سكان كندا الأصليين! تلتها كلمة ترحيب من وزير الهجرة الكندي، وبعده استعراض إيقاعي لفرقة من الجالية الأفريقية الكندية، ثم كلمة من أحد اللاجئين المسلمين السوريين الذي ما لبث أن أصبح رجل أعمال؛ وكلمة أخرى من أحد رجال الأعمال الكنديين البيض، بعد هذا انتصب الجميع يرددون النشيد الوطني الكندي بقيادة كورال هاليفاكس للرجال المثليين! ثم قام بعدها الحضور بمراسيم القسم واستلموا شهادات الجنسية الكندية!
من الجميل أن نرى كندا تحتوي بعض فئات الشعب وتعطي اعتبارا للأقليات المرئية والمقهورة، الأمر الذي تفتقر إليه دول الشرق الأوسط، فأضحت أقلياتها غير مرئية بالمرة! وكندا تعتبر الدولة الوحيدة التي تحاول جاهدة أن تحول حلم اليوتوبيا إلى حقيقة، وتقوم بتفعيل القوانين الصارمة من أجل تحقيق هذه الخطة الإنسانية في شكلها! أما فيما يخص المضمون، فهذا ما أنا في صدد مناقشته!
في رأيي، ستتورط كندا قريباً - رغم نبل المقصد و دون أن تدري - في مأزق لاذع! ففي محاولتها السلمية لتقريب فئات الناس المختلفة من بعضهم، قد وضعت الوقود بقرب النار! فهناك تضارب واضح في الأهداف والمصالح بين تلك الفئات؛ فهناك ضغائن تاريخية وعقائدية تحول دون اتفاقهم! فساكن كندا الأصلي، في أعماقه، يحقد على الكندي الأبيض؛ والأفارقة المضطهدون، تكوَّن لديهم عنصرية مزمنة مضادة تجاه الجنس الأبيض! والمسلم يكره اليهودي بحكم عقيدته، والمسيحي ناقم على المسلم بحكم خبرته، والأبيض لا يزال يفتخر بنفسه وبعرقه، أما المثلي فيود أن يتوغل ويطبق ميوله وأفكاره على الجميع بعد سنين من الكبت. فكيف يتفق كل هؤلاء إذن، وتحت أي مسمى؟! فكل منهم يعاني من جراح عميقة لا تداويها مجرد شعارات سطحية تدعو للتنوع والاختلاف والإنسانية! فكندا سياسياً لا تجبر شعبها على القومية! فهي، مثلاً، لا تمارس سياسة قمع صدام حسين أو جمال عبد الناصر، بل على العكس هي تشجع بشدة تعايش الثقافات المختلفة سوياً! لكنها تجهل تماماً أن بعض تلك الثقافات منغمسة بعمق في مبدأ رفض الآخر، بل وقهره أحيانا!
ما يحزنني في الأمر، أن كندا لم تناد بالتنوع وقبول الآخر إلا مؤخراً! فمعظم الأقليات التي شاركت في حفل استلام الجنسية الكندية أعلاه، تعيش في كندا منذ القدم وكل معاناتها معروفة تاريخياً لدى الجميع، لكنها لم تحظى بهذا الاهتمام السياسي، إلا بعد أن أصبحت قضاياها قضايا رأي عام وتحت أنظار منظمة حقوق الإنسان. مما يجعلني أتساءل ما إذا كانت كندا تؤمن فعلاً بالإنسانية أم أنها تتقي فقط شر الإعلام؟! كلنا نعلم أن كندا تعاني من قلة التعداد، وهذا هو الدافع الرئيسي، في رأيي، لقبولها الهجرات المختلفة والفئات المتعددة؛ وقد بدأت مؤخراً في المزايدة في معاييرها لإرضاء جميع التيارات والاتجاهات السياسية والاجتماعية حسب حالة الرأي العام والمناخ السائد لخدمة هدف التعداد! فإذا ثار الناس اليوم بقوة من أجل حقوق الافارقة، فهلم ننادي بإنصاف الأقليات السوداء؛ وإذا شن أحدهم اليوم حرباً باردة ضد ارتداء الحجاب، فلنصدر قانون ضد ازدراء الإسلام؛ وإذا اُكتشفت رفات قتلى أصليين في أرض أحد الكنائس، قد يتجاوز عمرها المائة عام، فلنعتذر على الفور ونقدم فروض الولاء والطاعة بل ونحارب وندين الكنائس أيضا إذا لزم الأمر! ومع أني اتفق تماماً مع احترام جميع الناس بكل مذاهبهم وميولهم، إلا أنني لا أحب أن تتحول السياسة الكندية إلى مجرد ردود أفعال للأحداث المعاصرة فقط، بل أن تكون صادرة عن اهتمام حقيقي بصدق!
من الجميل طبعاً أن نراجع أنفسنا ونصحح أخطاء الماضي والحاضر، لكن بتعقل وحكمة! لأنه بهذا الأسلوب المتبع، ومع اختلاف النوايا الخفية لهذه الفئات الظاهرة، وغير الظاهرة منها، ستنشأ مشاحنات أخرى، سيتم الرد عليها بنفس المبالغة واللامعقولية؛ وبسبب تضارب المصالح، سيكون الرد منصفاً للبعض، ومهمشاً للبعض الآخر! أي ستظهر ازدواجية رهيبة في القوانين كما هو حادث الآن! فمثلاً، القانون اليوم يناصر المثلية، لكن هناك ازدراء واضح وصريح ضد المسيحية، دون أي رادع من الدولة؛ فيمكن للشخص تحت مسمى الحرية الشخصية أن يطبع على سيارته سمكة يسوع ولها أطراف ومكتوب بداخلها داروين بهدف السخرية والتحقير من المسيحية، بينما حاول أن تعبر عن رأيك الشخصي الحر عن المثلية بكل أدب ودون تجريح، وستقابل بالهجوم الشديد! وقد تسمح المدارس الكندية الحكومية بتعليم طقوس شهر رمضان الدينية للأولاد، بينما لا تسمح بتداول أي شعائر دينية أخرى! فنتجت ازدواجية ملحوظة في المبادئ وأيضاً دكتاتورية مستترة، لكن محسوسة، ضد ميثاق الحقوق والحرية الكندي!
ومن كثرة الاهتمام الزائد اليوم بالتنوع والاختلافات العرقية بين أطياف الشعب الكندي، ازداد الشعور الشخصي بالاختلاف أكثر من الشعور بالانتماء! فتكونت حساسيات اجتماعية، لا داعي لها، تُشعر الشخص المعني بالاهتمام، باختلافه المزمن! فلاني انا شخص شرق أوسطي، ذو لكنة واضحة، سيتم التعامل معي بحذر مفرط حتى لا تخدش مشاعري، مما سيذكرني على الدوام بغربتي العرقية عن البلد، مهما طالت معيشتي فيها! وقد أستغل انا تلك الحساسية لصالحي ولتنفيذ أغراضي بشكل ملتوٍ، أو قد أنفر منها واشعر بعدم الراحة وعدم الاستقرار!
ومع الشعور بتلك المثالية الظاهرية، قد يظهر أيضا برٌ ذاتي زائف! فإحساسي السطحي كدولة بتلك المثالية، يشعرني بأنني أفضل من غيري من الدول الأخرى، بل ولي حق إدانة شؤونهم الداخلية! فانتقد الولايات المتحدة الأمريكية حين تنتخب ترامب كرئيس، أو اشجب قطر لأنها لا تقبل المثلية؛ تعالوا نتخيل مثلاً، إذا هاجم مسلمو العالم كندا لأنها لا تقبل بتعدد الزوجات، أو بزواج الأقارب! ألن ترد كندا وتقول ما شأنكم وشؤوني الداخلية؟! لكن للأسف، كندا تعاني اليوم من البر الذاتي الذي يشعرها دائماً بأنها مخولة لتوجيه الانتقاد للآخرين، ولا تقبل من ينتقدها أو من يحكم عليها! وهذه هي المراءاة بعينها؛ فأنا أكرس مجهودي لنشر فكرة عدم إدانة الغير في مجتمعي، لكن في الوقت ذاته أدين كل من يختلف معي في الرأي! وهذا، للأسف، يمارس اليوم في كندا على الملأ!
فإذا استمرت حالة ركوب الموجة على هذا المنوال، هل يا ترى سنرى بعد ٥٠ عام من اليوم، احتفالات استلام الجنسية الكندية تقدمها مئات الفئات الجديدة الأخرى إذا ما تحولت قضاياها إلى الرأي العام؟! فهل نتوقع مثلاً كلمة من مندوبي جماعة وشم وثقب الجسم، أو مضاجعي الصغار، أو تجار المخدرات، أو مضاجعي المحارم…الخ؟! هل هناك سقف أو مرجع ثابت لقبول السلوكيات والاتجاهات المختلفة، أم أننا في مهب الريح، نحمل بكل ريح عاتية؟ .. مجرد تساؤل!