هاني صبحي يكتب: كيف نشأت الصداقة بين الحياة والموت!! ”هل حقاً السقا مات”؟!
بقلم: هاني صبحي
كل البشر على وجه الأرض، وعلى اختلاف ثقافاتهم ومعتقداتهم وظروفهم الاجتماعية، بيعيشوا رحلة حياتهم كاملة إن كانت طويلة ولا قصيرة، بتخضع فيها مصائرهم وأقدارهم وحتى طموحاتهم وأحلامهم للعبة الاحتمالات، كل شيء محتمل حدوثه، يمكن الإنسان ينجح ويمكن يفشل، يرتاح أو يتعب، يفوز أو يخسر.. كل شيء وارد، وكل الناس اختلفت في الرؤى والمفاهيم والعادات والتقاليد، اختلفوا في الدين والمعتقدات، اختلفوا حتى على وجود الله من عدمه، إلا شيء واحد الكل أجمع عليه أنه هيحصل مهما غاب أو اتأخر، ذلك الضيف الغامض والزائر المجهول اللي بييجي فجأة يخطف غالي أو عزيز أو يخطف الشخص نفسه .. "الموت" .. اللي مفيش منه مهرب أو ملجأ .. مفيهوش مساومة أو تفاوض.
الكل عارف إنه على وصول .. لكن العبقري يوسف السباعي مشغلوش الموت نفسه كحدث بيحصل للإنسان على الأرض مرة أولى وأخيرة، قد ما شغلته فلسفة الحياة والموت .. ايه معنى الحياة ورسالتها وهدفها؟ وهل الموت فقط هو موت الجسد المادي؟ ولا للموت أشكال مختلفة؟ وهل ممكن نشوف إنسان بيمشي ويتحرك ويشتغل وهو عايش كما الأموات؟ "السقا شوشة" جاوب عن السؤال، وتقدر تشوف الموت الحقيقي مصاحبه في كل مكان، برغم إنه للمفارقة شايل على ظهره إربة الماء _ رمز الحياة..
داير يوزع الحياة على البشر والحيوانات والزرع.. بيجدد يوميا وعلى مدار عشر سنوات الحياة بالمية اللي بيسقي بيها شجرة التمر حنة المثمرة، اللي زرعتها "آمنة" زوجته اللي حتى لحظة موتها وهي بتولد ابنه الوحيد، كانت لحظة إعلان بداية حياة إنسان جديد جاي للدنيا يعيش ويعمر، ويملى البيت والحارة والمدرسة بهجة ولماضة واسئلة .. وأمل .. وحياة .. حياة مش عايشها أب ماتت جواه الرغبة في كل شيء .. السعادة، الرضا، الحب .. وعايش جوه بيته، سجنه الاختياري اللي يشبه القبور على ذكرى زوجته، وثأره الشخصي مع الموت اللي يوم ما خد "آمنة"، خد معاه الابتسامة والأمل والرجاء، رغم الحيطان اللي متزينة بآيات الصبر والإيمان، اللي وجودها كان ديكور فقط دون قناعة أو تأثير على السقا فاقد الصبر، ضعيف الايمان رغم الصلاة اللي مبيفوتش منها فرض.
ميت الشعور اللي بيوزع على أهل حارته الحياة لكنه ميت جوه أحزانه وخوفه من سيرة الموت .. واللي أبدع صلاح ابو سيف في أنه يحط معاه جوه نفس البيت حماته .. الضريرة اللي برضه ماتت ضناها، واللي كان أولى بيها انها تموت من الحزن مرتين ..مرة بسبب العجز والعمى، ومرة حزنا على بنتها .. لكننا بنلاقي العكس .. إنسانة نادرا ما كان ليها مشاهد وهي قاعدة .. حركة دائمة وانطلاق، مع روح مرحة صابرة مستبشرة لا تخطئها عين .. العقدة متحلتش غير بالصدفة، وبالصداقة اللي جمعت بين النقيضين .. شوشة اللي بيكره الموت وأيضاً بيخاف منه ويهابه ويتشائم من مجرد سيرته، يتعرف على شحاتة المطيباتي "صبي الحانوتي" _ اللي أكل عيشه المشي ورا الجنازات وتطييب خاطر المعزيين والحزانى.. اللي عايش بقناعة كاملة أنهم بيبكوا على حالهم مش على الميت.
شحاتة الفيلسوف الفصيح، اللي رغم عشرته للموت واحتكاكه الدائم بالبكاء والعويل وتراب القبور، لكنه دايم المرح والرضا والأمل .. صحيح مكانش مثالي وله شطحاته ونزواته في ملذات الدنيا، لكنه كان طيب ومش مؤذي ويملك قلب بيعرف يحب الناس والحياة، وقادر يوزع المرح والسعادة والرضا على كل اللي حواليه بما فيهم السقا شوشة، رغم كونه حانوتي رمز للشؤم ورهبة الموت .. شحاتة اعتبر الموت ضيف جبان بدليل أنه بييجي على غفلة، فقرر يغيظه ويتجاهله وميخليهوش يحس أنه خايف منه .. قرر مينتظروش اصلا ويستمتع بحياته ويبقى ييجي وقت ما ييجي .. السقا شوشة يبدأ يقتنع واحدة واحدة بفلسفة صديقه الحياتية اللي اتأخر مروره الهادي الخفيف على حياته عشر سنين، والابتسامة عرفت أخيرا لشفايف شوشة طريق، وحتى الرغبة في بداية حياة جديدة مع إنسانة بتحبه حس بيها، لكنه اكتشف بعد ما بص في مرايته لأول مرة من زمن طويل أنه كبر، والموت اللي عشش جوه روحه، والحزن والكآبة والخوف اللي صاحبوه من سنين سابوا أثرهم على وشه، ومعادش ينفع يبقى عريس لبنت لسه الحياة مستنياها مع اللي من سنها ويليق لها.. لكن زي ما الحياة بتستمر .. بيستمر معاها الموت في زياراته للي عليه الدور .. لكن المرة دي يتجاوز الموت شوشة السقا، وييجي يحصد روح شحاتة الحانوتي ..اللي استقبله زي ما بيستقبل كل حاجة في حياته ..هادي وراضي وقانع بمشواره القصير في الدنيا، قاعد بكل هدوء وشموخ، حتى إن شوشة لم يلحظ أنه مات إلا متأخراً.
الموت يفجع السقا مرة تانية، والعدو الأزلي لشوشة يعلن التحدي معاه من جديد .. ينهار شوشة ويجري بين المقابر يصرخ في وش اللي خطف الإنسان اللي رجع له شيء من شبابه وإنسانيته.. لكن يقطع صوت الصراخ والعتاب صوت الأذان "الله أكبر" .. فيكتشف شوشة أنه رغم صراخه وغضبه لكنه مكانش خايف من الموت المرة دي .. موت الحانوتي خلى السقا اللي بيخاف يعدي من قدام جنازة، واقف دلوقتي من غير ما يدرى وسط المقابر في مواجهة الموت من غير قلق ولا خوف .. "الله أكبر" كان نداء من السماء.. من اللي السقا بيروح له بدون خوف 5 مرات في اليوم يصلي مطمئن رامي قدامه أوجاعه وهمومه ..وكأن الرسالة ..لماذا الخوف من الموت إن كان هو الجسر اللي هيعدي من عليه الإنسان لربه أخيراً .. مات الحانوتي اللي حب الحياة وذهب بلا عودة .. وساب وراه سقا كان ميت ... فعاش