مينا ماهر يكتب: دردشة…بالعربي الفصيح: رواية ”إلى متى تجوع الضباع؟” (3)
بقلم: مينا ماهر
مقدمة: بدأت في كتابة هذه الرواية في مايو ٢٠١١ وانتهيت منها في نوفمبر ٢٠١١! تدور أحداث الرواية في أول ستة أيام من ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، لذلك يجب أن تقرأ في السياق الزمني والسياسي المناسب لهذه الفترة!
في الحلقة السابقة: تعرفنا على جمعة سعيد الدباغ الهجام المتمرس بالوراثة واستلطاف ضباط الشرطة له بسبب خفة ظله، لكن ثَمَّ حدث مريب على وشك الحصول رغم استتاب الأمن في ليلة عيد الشرطة عام ٢٠١١! وأيضاً تعرفنا على خمسة شباب أصدقاء كانوا يتابعون بتركيز أحداث الثورة التونسية على تلفاز في مقهى بلدي، بينما ضجر منهم تامر صديقهم بسبب اهتمامهم الزائد بالموضوع!
حلقة ٣:
"موت وخراب ديار!"
بعد ان استقر المناخ العام على طاولة الشباب في المقهى، وانتھى المذيع من بيانه، قال تامر متحفزاً:
- ابقوا قابلوني لو فلحتوا...لا تكونوش فاكرين انكم هتجيبوا التايھة؟!... كان غيركم اشطر! كنا فين من تلاتين سنة؟ رد عليه شريف مشيراً الى التلفاز: - ما غيرنا عملھا ونفعت ٓاھو، ما نجرب احنا كمان، ٕاحنا خسرانين ايه؟ قال خالد لشريف متسائلا: - تقدر تقوللي، ھما طالعين بكرة يعملوا ايه؟ ھل فيه خطة معينة مثلاً؟ رد عليه شريف: - مش عارف، كل اللي اعرفه انھا وقفة احتجاج، بس ٔاكيد في خطة! استدرك چو مستفسراً: - اذا في خطة، ليه انت مش عارفھا؟ ومين حطھا، و ازاي اتحطت؟ استاء شريف من كثرة الاستجواب فصاح فيھم: - جرى ايه انت و ھو؟ ھو انا في تحقيق؟! مش عايزين تيجوا، نفّضوا وخلاص. انا رايح لوحدي. سحب تامر نفساً عميقا من ارچيلته، وصمت لبرھة ثم قال: - انتو يا جماعة عارفين يعني ايه النظام يسقط؟... اقولكم انا، معناھا موت وخراب ديار. البلد دي وصلت لمرحلة ان اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش! ثم التفت حوله ودنا برأسه قرب الطاولة وأشار للجميع بيديه بان يقتربوا ليھمس و يقول: -....يعني انا مثلا ما عنديش مشكلة ان جمال يمسك بعد ابوه... شاب لبق و ممكن يطلع منه حاجة وعارفينه...ثم يعني مش قادرين تصبروا شويتين على حسني؟! دا ديتھا كام شھر ويروح لوحده. اجابه خالد الذي اخفت صوته ھو الأخر قائلا: - لا ھي مش مسألة جمال ولا حسني، ھم الاتنين أنيل من بعض...الفكرة زي ما قلت انت، اللي نعرفه احسن من اللي مانعرفوش...و النقطة دي في حد ذاتھا ھي اللي محتاجة تتحل...ليه نقبل اننا نبقى ضحية للقدر... ليه نرضى بقليلنا. تحمس شريف لما قاله خالد فعلق: - طب ما احنا متفقين اھه! مالك معترض على اللي انا قولته ليه؟ رد عليه خالد معللاً: - لأن انت ما قولتش كده، انت قولت نجرب! انما الحل اللي انا شايفه انه لازم يبقى فيه خطة متفق عليھا لو فعلا عايزين تغيير. مش برضه سايبينھا للظروف! انفعل على جدا لدرجة ان نبرة صوته قد ارتفعت عن مستوى الھمس رافعاً راسه بشكل عفوي حين ھم بالرد على خالد: - دا كلام فارغ... نبھه بقية الشباب بان صوته قد ارتفع ولذلك ٔاستدرك الموقف بسرعة، فخفض من نبرته واسترسل ھامساً: - دا كلام فارغ يا خالد..".قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"...ايه يا اخي... حاتكفر بقدر ربنا... ٔاجاب تامر مستنكراً: - كفر ايه انت كمان؟ ... ھو بيقول مانسيبھاش للظروف...مال دا ومال الكفر عايز افھم؟ - يا تامر، "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" فأكمل تامر له الحديث الشريف: - "فٕان لم يستطع فبلسانه، فٕان لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان." فين الكفر بقي؟ - الكفر انك تشكك في اللي مكتوبلك، اللي عايزه ربنا حايكون سواء خططت ٔاو لأ و الحديث الشريف بيقول يغيره بيده ما قالش اقعد خطط لتغييره. بالظبط زي ما قال شريف "جرب"، وبعدين شوف حلول تانية إذا ماقدرتش. قاطعه خالد: - يا سلام يا سي علي، يعني لو انا خططت يبقى انا كده باعمل ضد الحديث؟! ليه ھو الرسول، عليه الصلاة والسلام، ما كانش بيخطط قبل الغزوات؟ والنبي نقطنا بسكاتك بقي وخليك في الحلبة الحصى، المشروب المنقرض بتاعك دا. ثم التفت خالد نحو چو وقال مداعبا: - ولا ايه يا چو؟ اختطف چو كوب السحلب ورشف منه رشفتين ثم ابتسم لمن حوله وقال: - آه كلام مظبوط...هو فعلاً مشروب منقرض!"خميس وجمعة"
يقع منزل جمعة الضبع في احدى عشوائيات القاهرة وھو في الحقيقة ليس بمنزل! ھي عشة صفيح جُمع ھيكلھا الخشبي من مخلفات سقالات العمارات التي كانت تحت الإنشاء؛ تغطي الھيكل ألواح صفيح مصدي من ثلاثة جوانب فقط، حيث يرتكز الجانب الرابع على حائط أحد المنازل المخالفة للبناء في المنطقة، وھو مبني من الطابوق الأحمر ومرقع بالطين لسد فجوات الحائط. وتتكون أرضية العشة من طبقة اسمنتية لتثبيت ذلك الھيكل الھش في الأرض على قدر المستطاع. باب العشة مكون من الواح الخشب القديم الذي تم تجميعه وتركيبه يدوياً على يد شخص غير محترف. اما السقف الخشبي فھو يعاني من التآكل بسبب الأمطار وعوامل التعرية رغم وجود طبقة المشمع البلاستيكية فوقه وتحته! ليس الغرض من شرح تفاصيل العشة ھو إيضاح مدى الفقر الذي يعاني منه جمعة، بل لتوضيح مدى معاناة غيره ممن حوله، فجمعه يعتبر من الفئة المتوسطة (المترفة) في الأحياء العشوائية؛ فمثلا نراه قد نجح، دون غيره من ساكني العشش، في امداد عشته بسلك كهربائي للإضاءة؛ ھذه ليست مبالغة، فالآخرون قد يفتقدون النور وبعض جوانب العشة الصفيح التي أطاحتها العواصف، وقد لا يتمتعون أيضا بأرضية أسمنتية على سبيل المثال! فالمعيشة في العشوائيات صعبة، ان لم تكن معدومة. ان الدولة تعي تماماً وجود العشوائيات التي تفاقم عددھا ليفوق الألف منطقة، ولكن، كما ذكر مسبقاً، بسبب ظھورھا غير القانوني واستغلالھا لأراضي الدولة، لم تمدھا الدولة بالخدمات اللازمة كالمياه، والكھرباء، والصرف...وما ٕالى ذلك. وھذا ادى بدوره لتدھور سبل الحياة، والعيش في مقارنة دائمة مع من حولھم من أھل المدن، فازداد ٕاحباطھم واتجھوا لطرق الحياة الملتوية، كالجريمة والمخدرات والدعارة وتوابعھم. فمن الطبيعي جدا ٕاذن ان يسخط هؤلاء المواطنون على الحكومة وبقية المجتمع اجمع. عاد جمعة ليلتھا الى عشته ليرى اخاه ملقياً على الأرض امامھا ثملاً وخده مجروحا بحد سكين! بدون انفعال، مطلقاً، جلس جمعة بجانبه وسأله: - مين اللي شلفط اھلك كده يا خميس؟ انتصب خميس في جلسته وزجاجة الخمر في قبضته، وأمعن النظر في وجه اخيه وقال وھو مخمور: - انت جيت يا ضبع؟ كويس أصلي كنت قلقان عليك. - قلقان ايه وھباب ايه؟ اقلق على نفسك يا مدھول...مين اللي علمك في وشك؟ - ابو دومة الدكش، قلبني وضربني بقرن غزال ورماني ھنا. - ھو الرمة دا مش ناوي يجيبھا البر...ليه عملت له ايه انت كمان. - مافيش، ھو عرف اننا كنا في عملية، قام قاللي قِب بالمعلوم، فبقّيت فيه، و حصل اللي حصل..ما ھو انت لو جريت معايا وقت كبسة البوليس ما كانش استجري يھوبلي... انما اقول ايه غاوي تتمسك يا جمعة. - انا زھقت بقى يا خميس. الشغل القطاعي دا ما عادش يجيب تمنه، انا نفسي العب على كبير بقى. - ايه عايز تدخل كار المخدرات؟ - أعوذ بالله، حد الله بيني وبين الحرام! ان سعيد الدباغ والدھما كان يتفاءل بيومي الخميس والجمعة، ربما يعود السبب ان معظم الناس يقضون اغلب وقتھم خارج المنازل في ھذين اليومين فتتسنى له السرقة بالطبع، ولذا سمى ولداه خميس، وھو الأكبر، وجمعة. اما بالنسبة للقب الضبع، فقد لقب به جمعة منذ سنوات عندما جاءت بالصدفة احدى الناشطات من جمعية حقوق الإنسان العالمية لدراسة المناطق العشوائية؛ وكانت أجنبية الأصل لكن تعرف القليل من العربية! فالتقت بجمعه وقتھا، فقام بدور المرشد السياحي لھا! فأصبح من حوله من الرجال يرمقه بنظرة حاقدة لصحبته امرأة اجنبية شقراء، ومع انھا لم تكن جميلة لكن بمستوى الأحياء الفقيرة كانت تعتبر فارھة الجمال؛ فكان الجميع يعلقون عليه وھو بصحبتھا؛ فمنھم من قال "جبتھا منين المزة دي يا جمعه؟"، و ٓاخرون قالوا "دا فيه واحد ليلته حمرا النھاردة" وتعليقات أخرى من هذا القبيل. وعلى الرغم من الإحراج المسبب لجمعة، إلا أنه كان يشعر بنشوة الذكر المنتصر وقتھا. أما القشة التي قسمت ظھر البعير، كانت عندما حاولت المرٔاة نطق اسم جمعة الدباغ فقالت بلكنتھا الأجنبية "جوما الدبَّاه" وعندھا انفرط من حولھما في الضحك حتى جمعة نفسه، وانھارت التعليقات من جديد: " جومة الضبع ...ھا ھا ھا"، " يا خسارة كنا فاكرينك سبع؟ أتاريك ضبع!"، " فضحتنا وسط الأجانب"، " مين خرج من داره اتقل مقداره"...وھكذا! وقد لقب جمعة بالضبع من وقتھا إلى يومنا ھذا.يتبع في الحلقة التالية من العدد القادم!