سلام قطمة تكتب: الصفقة
في مقالي السابق، تحدثت عن القيم العائلية بشكل عالم بين الماضي والحاضر، ولكني اليوم أود أن أتحدث عن القيم العائلية العربية تحديداً ولكن في البداية اسمحوا لي أن أوضح بعض النقاط الهامة قبل الغوص في تفاصيل حياتنا المكررة.
دعونا أولاً، نعترف بصدق أن قيمنا وتقاليدنا العائلية ليست صافية النية دائماً، بل هي تكريس لعادات ومعتقدات، تقاليد وأعراف قديمة أكل عليها الدهر وشرب. القيم العائلية هي المبادئ الأساسية التي تمثل أسلوب الحياة والتصرفات والتفكير التي يتم تمريرها من جيل إلى جيل داخل الأسرة، وتمثل الإرث الثقافي والاجتماعي للأسرة. وتعد القيم مهمة جدًا في تشكيل مجتمعنا الحديث وتلعب دورًا حيويًا في تحديد ما يعتبر صحيحًا وخاطئًا وما هو مقبول أو غير مقبول.
والسؤال: هل من الممكن أن تتغير القيم؟ نعم.. ممكن أن تتغير القيم مع مرور الزمن وتطور المجتمع والثقافة والتحولات الاجتماعية والتكنولوجية. فالقيم قد تخضع لتغيرات وتطورات معقدة ومتعددة الجوانب، وتتأثر بالتحولات التاريخية والثقافية والفكرية والدينية والاجتماعية والاقتصادية وحتى البيئية.. أما التقاليد هي الممارسات والعادات التي تتم تمريرها من جيل إلى جيل داخل الأسرة، وتمثل الإرث الثقافي والاجتماعي للعائلة وتعطي الأفراد الشعور بالانتماء والتواصل والتفاعل مع بعضهم البعض. ويمكن أن تتضمن تطوير التقاليد العائلية بعض التغييرات لتناسب التحولات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية في المجتمع، وتحقيق التوازن بين الموروث التقليدي والتطورات الحديثة.
والآن.. دعونا نجلس مع أنفسنا جلسة تأمل صادقة وننظر إلى قيمنا وتقاليدنا العائلية بعين الناقد ولكن، قبل أن نقوم بذلك، دعونا ننظر بصدق إلى مؤسسة الزواج العربية! منذ بدايتها وحتى النهاية! دعونا نتحدث عن تفاصيلها بدقة وبدون زعل.. وقبل أن نبدأ دعونا نتفق أن مؤسسة الزواج العربية ومن ثم العائلة العربية هي القالب الذي نشكل فيه نسيج مجتمعنا، أي هي النظرية والقانون ولكن هنالك استثناءات وهنالك متمردون خرجوا عن هذه العادات وعن القانون والقالب.
الزواج عندنا يا سادة يا كرام في مجتمعاتنا العربية هو تقليد.. هو أمر مسلّم به.. أي تحصيل حاصل، "ما في شيء اسمه مابدي اتجوز، كله لازم يتجوز وكله لازم يجيب ولاد".. هذا فرمان عائلي يصدر من العائلة الكبرى. التقليد العريق للزواج في مجتمعاتنا هو أن يكون تقليدياً يتبع الخطوات المرسومة على الحجر بدون خروج عن النص.. أي فلانة عندها شاب تعتبره كالقرد الذي في عين أمه غزال، أما فلانة الثانية فعندها صبية ينطبق عليها المثل القائل: نظرت الخنفسة إلى بنتها على الحيط وقالت لها ما أحلاكي متل اللولو بالخيط! كلا السيدتان تبحثان عن شريك أو شريكة لأبنائهما كي يدخلا القفص الذهبي، ودعونا نفترض جدلا أن السيدتين هما ضمن مجموعة أصدقاء أو دائرة معارف واحدة وهذا يسهل الامر عليّ أنا حتى لا أتشعب وأدخل في متهاهات البحث عن زوجة أو زوج حيث أن هذا موضوع آخر مختلف وطويل وسأترك المجال للحديث عنه ليوم آخر. فإذاً، السيدتان اتفقتا على تزويج أبنائهما، وهنا دخلنا في التقاليد العريقة التي نحن نفخر بها لما تحمل معها من باقة مفاجآت ومناسبات ودعوات ونفاق.
حيث يبدأ كلا الطرفين بالتظاهر والتفاخر بما يملكون أو لا يملكون.. ونبدأ هنا بيوم التعارف العظيم حيث يقوم أهل العريس بزيارة أهل العروس الذين هم أصلاً بدأوا استعداداتهم لهذا اليوم. وتبدأ القصة بتحديد موعد الزيارة التي سيقوم بها أهل العريس لأهل العروس.. الموعد يجب أن يكون بعد شهر من الآن على الأقل، لماذا؟ لأن أهل العروس يودون التفاخر بالخنفسة اللي على الحيط بأنها لولو حقيقي في الخيط.. قد يتغير العفش وقد يتعدل تصميم الغرف كلية ولابد هنا أن نقوم بعملية تنظيف شاملة للبيت مع تغيير المناشف والأطباق والفناجين .. فنحن نود أن نخفي لهفتنا وفرحتنا بهذه الزيارة المباركة متظاهرين بأننا حقاً إنها عائلة محترمة! وذات شأن عظيم فنحن ذوو الحسب والنسب والمنزل الفخم والطعام الفاخر!
هذا فيما يتعلق بترتيبات المنزل أما الفساتين والشعر والمكياج فحدث ولا حرج.. ذلك فيما يتعلق بأهل العروس! أما أهل العريس فالموضوع أبسط من ذلك بكثير حيث لا يتطلب الأمر أكثر من شراء أو استئجار بدلة محترمة للعريس وأبوه.. وشراء باقة ورد وطبق شوكولاته إن لزم الأمر.. أم العروس وبناتها ممكن يشتروا فساتين ولكن دورهم هنا ليس للتفاخر بقدر ما هو للتفتيش والتحقيق والتمحيص! كالرقابة التي تطب فجأة على مؤسسة ما فتحقق وتنظر بعينها الثاقبة حولها باحثة عن الأخطاء والثغرات! وجاء اليوم العظيم والاستعدادات على قدم وساق.. التوتر في بيت العروس في الأجواء ومع الهواء .. طبعاً أخت العروس الجميلة إما.. لا يجب أن تظهر في الصورة بتاتاً، أو قد تظهر بمظهر بسيط كي لا تغطي على جمال وتألق أختها وكي لا يرى الزبون القادم منتج آخر فيعجبه ويغير رأيه ويشتري البضاعة الأفضل!
أخو العروس الكسول والمدلل فجأة يصبح له دور حاسم فهو ذراع أبيه اليمنى وهنا سيترك دور دلوع أمه والذي جنن أخته بقلة ذوقه وعدم تحمله للمسؤولية وسيظهر كالغضنفر الخائف على عرض أخته! فتجده رجلٌ والرجال قليلُ! ويرن الجرس وتبدأ المسرحية.. من سيفتح الباب؟ إما الأب أو الأخ.. يعني رجل البيت إيواااااا .. هذا البيت له حرمة وله رجال يحموه والدنيا مو سايبة هون من هلأ اعرفوا هاد الشي.. تدخل أم العريس على أساس النساء أولاً حيث نحن جماعة نفهم بالاتيكيت .. يليها أبو العريس ثم عين أمه حاملاً هدية إن لزم الأمر! وصلت عائلة العريس.. اتفضلوا عالصالون.. وشوفوا صالوننا شو حلو واسع بيتنا محترم كبير جميل فخم.. أم العروس لابسة فستان جميل يليق بها كأم عروس يعني غير متكلف ولكنه غير بسيط في آن واحد محتشم ومحترم حتى لا تقع ضحية ألسن الرقابة فتظهر كالعجوز المتصابية! اتفضلوا ارتاحوا.
وتبدأ الأحاديث الخفيفة التي تسمى آيس بريكر أي تلك الأحاديث التي تكسر حاجز الجليد بين الطرفين إلى أن يحين الوقت بظهور الصبية العروس على المسرح فتتقدم بخجل وابتسامة لتصافح القادمين.. العريس الذي يتباهى بوسامته وطوله عرضه شعره جماله وأمه التي تظهر هنا بمظهر أو مكان فيه نوع من القوة والسلطة حيث أن تقاليدنا العريقة تعطي السلطة لأم العريس أكثر من أم العروس لماذا؟ لأنه ببساطة هي الزبون الذي يشتري البضاعة والزبون دائما على حق.. ونحنا بدنا نبيع بضاعتنا فلذلك قد نخضع لشروط الزبون من أجل أن تتم الصفقة ونخلص من البنت ونتفرغ لأختها!
صار وقت العصير أو القهوة أو الضيافة بشكل عام وهنا بقى تقوم الأم أو الأخت إلى المطبخ ومعهم العروس طبعاً وتبدأ التحضيرات ثم يأتي دور الموقف الأكثر تحدياً في هذه الليلة ألا وهو كيف للعروس أن تحمل الصينية وتذهب بكاسات العصير دون أن تنسكب وبمن تبدأ.. طبعاً هذا السيناريو خضع لبروفات كثيرة وجاء اليوم المهم حيث تعيد الأم التعليمات مرة أخرى للعروس.. امسكي الصينية منيح.. امشي على مهلك.. ابدأي بأم العروس ثم .... طبعا لما بيجي دور العريس فكلنا بنعرف شو بدو يصير.. العريس سوف ينظر إلى العروس بإبتسامة التحدي والعروس بإبتسامة القبول والخجل.. الحمد لله خلصنا من مشهد الصينية على خير ولم تنسكب وتعمل لنا فضيحة .. ثم يأتي دور مشاهد أخرى متكررة كصينية الكيك وصينية القهوة ولكن مادام المشهد الأول مرّ بنجاح فغالباً المشاهد التي تليه سوف تمر هي الأخرى بنجاح. طبعا سوف يأتي دور المشهد الحاسم والمهم الذي سوف يردد فيه أبو العريس الجمل المكررة عبر التاريخ وجميع المسلسلات العربية التي يتقدم حضرته بطلب يد كريمتهم لابنه البار ذلك المشهد المستهلك المكرر بملل يثير الغثيان وكأنه فعلا موقف ديني مهيب واجب علينا مقرر منزل من عند الله.
حيث يبدأ أبو العريس بتقديم ملف العائلة وما يحمله من عراقة وعظمة عبر التاريخ القديم والحديث وكأنه يقوم بعرض برزنتيشن Presentationعنوانه "من نحن" ويبدأ بــــــ نحن عيلة فلان أبناء علان نشتغل بكذا وكذا و... الجملة الأهم هي نريد أن نتقدم بطلب يد كريمتكم .. والآن انتهى البريزنتيشن وتنفس أبو العريس الصعداء وغالباً يمسك ببقايا كأس العصير ويشرب شوي يبل ريقه!
والأن استلم أبو العروس الميكروفون وبدأ هو الآخر بالعرض! طبعاً قبل هذا اليوم كان هنالك العديد والعديد من المناقشات بينه وبين العروس وأمها حول الأمر فالقرار صادر سلفاً والموافقة موجودة طبعاً ولكن .. من أصول الشغل أن يتدلل الأب شوي ويحكي عن حاله وعن بنته وعن تاريخ عائلته قبل أن يتطرق إلى الجملة الشهيرة أيضا وهي أن يشرفنا القبول! كل ما سلف حكي فاضي على فكرة .. كله تمثيل وضحك ولعب ومزح وابتسامة كله إظهار الجانب المشرف من شخصياتنا .. والآن دخلنا بالجد .. فنحن أمام صفقة وهنالك طرفين فالاتفاق الشفهي على الصفقة حيث اتفقنا أن نعقد الصفقة وهذا شيئ جميل ولكن الأهم بقى هي بنود الصفقة وهون دخلنا بالجد.
بنود الصفقة يحددها الأهل.. حيث صاحب البضاعة له طلبات وشروط لبيع البضاعة.. ومشتري البضاعة قد يقبل بالشروط وقد يرفض وقد يعدل .. قد يضيف أو يلغي وهنا دخلنا بمتاهات لا تنتهي، متاهات تدخل العروسين بتحديات كبرى .. نعم تحديات وهو اختبار حقيقي للعروسين وهذا يعتمد على علاقتهما ببعضهما البعض فإن كان العروسين على علاقة مسبقة هذا الأمر سوف يشكل ضغط على البائع والشاري حيث رأي العروسين هو الفيصل! أما إذا كان العروسين ما بيعرفوا بعض .. ما بيكون أمامهما إلا الخضوع لبنود الصفقة .. الصفقة قد تنجح وقد تُحبط وتُموت في مكانها! للأسف الأمر كله صفقة بين البائع والشاري.. البائع هو أهل العروس والشاري هم أهل العريس!
وبين البائع والشاري.. يفتح الله
تفاصيل وبنود الصفقة في العدد القادم