هاني صبحي يكتب: كلنا فاسدون.. فلماذا كان عنوان الفيلم ”ضد الحكومة”!!
بقلم: هاني صبحي
زمان ...لما كان عندنا سينما ودراما، تقترب من الحدود المعقولة المسموح بيها، من الاشتباك مع قضايا المجتمع الحقيقية والواقعية، واللي برضه مقدرش اقول أنها مستقلة بالكامل، أو مفتوح لها باب الحرية والطرح المباشر على مصراعيه يعني..كانوا صناع الأفلام اللي بتصنف أنها سياسية وجريئة، بيعتمدوا في عناوينهم الإسقاطات والرمزيات، زوغانا من مقص الرقابة، أو هربا من شبح وقف العمل كله على بعضه، ده إن مكانش فيها كلابوش.
فكنا بنشوف عناوين من نوع: الكرنك، شيء من الخوف، العصفور، إحنا بتوع الاتوبيس، وهكذا.. لكن سنة 92 فوجئ الجمهور بطرح فيلم لبشير الديك والمخرج عاطف الطيب، وبطولة المشخصاتي العملاق احمد زكي.. عنوان الفيلم مسابش فرصة لأي تفسير أو احتمالات.. بسم الله توكلنا على الله.. الفيلم ده ضد الحكومة يا اخوانا ! .
الجميل في الموضوع إن تقريبا صناع الفيلم كانوا عارفين مستوى عقلية مسئولي الرقابة وقتها، وقرروا يأخذوهم على قد عقلهم للعبور إلى بر الأمان.. فكتبوا في التتر "ضد الحكومة" وبالأسفل وبين قوسين "عن مافيا التعويضات" .. معرفتكش انا كده!! اللي هو يا جماعة الفيلم بيناقش فساد الضباع من محاميين قضايا التعويضات، اللي الحوادث والكوارث الإنسانية، بتكون فرصة ليهم لاصطياد الضحايا في طلب التعويضات، ومن ثم الفساد والسطو على النسبة الأكبر من التعويضات المصروفة، إن مكانش المبلغ كله.. وإن كان ده حقيقي ورصد لظاهرة معروفة وموجودة.. لكن في ظني إن الحيلة نجحت، واستغل الديك والطيب الحكاية دي لتمرير رسالتهما الصارخة الواضحة التي لا تحتمل أي التباس.
الرسالة في رأيي لم تكن الصرخة في وشنا احنا بس كمجتمع تنوعت فيه مظاهر وسلوكيات الفساد.. الصرخة كانت في وجه اللي صنع شبكة الفساد الكبيرة، اللي خلقت شبكات الفساد الصغيرة، وورطت الكل في الفساد بدرجات، وكرست لنظرية اليلا نفسي والياكش تولع ومصلحتي ومن بعدي الطوفان.
الفيلم شاور على المستقبل في صورة أطفال تمرح وتغني وتنظر بعيون يملأها الأمل والرجاء لبكرة افضل، جاي ومعاه العلم والمستقبل والحلم ببدلة كاراتيه مزينة بميدالية ذهبية..مشحونين بداخل الحاضر _ اتوبيس للموت يقوده سائق عيونه زائغة عن الطريق، وعيون المشاهد شاخصة إلى البرشام اللي التقطته أيده من جيب قميصه، منذرا بكارثة محققة نتيجة وضع بائس معتاد بتكليف القيادة والمسئولية لمن ليس أهلا بالثقة والقيادة والتحكم بمصائر الناس..ليصطدم الحاضر والمستقبل بالماضي في صورة قطار متهالك، يسير منذ عقود بعشوائية وجهل وارتباك.. يحصد الأرواح بلا توقف..متعمدا مرات، وبالاهمال والتواكل والفساد مرات..ليبقى المسلسل عرض مستمر بنهايات مفتوحة على بدايات أخرى متشابهة ومتكررة وأصبحت في حكم المعتاد.
أرواح تُزهق ومستقبل يُسحق وفاعل حقيقي معلوم، استقر في نفس الجميع أنهم يتجاهلوه ويشيروا بأصابع الاتهام نحو موظف إشارة أو سائق مهمل أو مخمور أو عامل تحويلة.. ليبقى الوضع على ما هو عليه، ويتفرق الدم بين القبائل، ويتفرغ الجميع أنهم يمسكوا في خناق بعض.. ويبقى في مأمن اللي سمح من البداية بكل ده.. اللي نشر الفساد والاهمال وقام برعايته وزرع نبتته في كل شبر من البلد وحوله لأسلوب حياة.. يبقى محصن من المساءلة والمحاسبة.. يبقى في مأمن، من زرع في نفوس وعقول الناس، إن الحداقة والفهلوة هي المعبر للعيشة المرتاحة، وإن الرشوة هي اسمها هدية أو اكرامية، وإن أحد الحق بالدراع أو الواسطة والمحسوبية هي شطارة وذكاوة.
الفيلم شاور على مين اللي صنع من المواطن.. انسان هيفكر ألف مرة في عدم جدوى أنه يمشي صح ويسلك القانون ويعيش في نزاهة، لأن كل ده هيتحول لعائق هيمنعه يعيش وياخد حقوقه، إن مكانش هيضره ويتسبب في اذاه، لو قرر يعوم ضد التيار في مجتمع، هناك من زرع فيه الظلم والقهر والمحسوبية وانعدام مبدأ تكافؤ الفرص.
مصطفى خلف، كان فعلا محامي فاسد.. التقط الحبل اللي رماه انفتاح عصر السادات وفساد المرحلة، فتدرب جيدا على المشي عليه، وذاكر كويس منهج فساد عصر مبارك، واستوعب عقله قواعد ترزية قوانينه، فأبدع وتألق واستفاد وتفوق على أقرانه..لكنه منسيش يقول لنا أنه تجرع مرارة الشرب من كاس النكسة، وداق طعم خديعة شعارات الاشتراكية والكرامة الإنسانية وشعارات ارفع رأسك يا أخي اللي جاء بها ضباط يوليو الأحرار.
مصطفى خلف كان جحا المستفيد من أرضه الخضرا المثمرة الخصبة، ومكانش ملتفت ولا شاغل باله بالدود اللي سارح في ارض الغير.. كان بيقول انا مالي طول ما الدود بعيد عن ارضي.. لحد ما الدودة كسرت رجل ابنه الوحيد ودمرت له مستقبله.. فكان طبيعي يتوجع من الألم ويصرخ.. كلنا فاسدون لا استثني أحدا، حتى بالصمت العاجز "الموافق" قليل الحيلة.