لماذا اعتمد يسوع؟
يأتي عيد الغطاس وينشغل اغلب الناس بالقصب والقلقاس وتظل التأملات في العادات الاجتماعية مسيطرة على اغلب هؤلاء، فيعبر عيد الغطاس بعد أن يشبع هؤلاء من أكل القلقاس في انتظار هضم هذه الوجبة مع التمنيات بوجبة أخرى في العام المقبل وفرصة للقاء الأحباء.
وكأن هذا الحدث العظيم قد استبدل بوجبة. للآسف لم نتعلم ثقافة السؤال ولم يهتم الكثير من الناس من طرح سؤالا هاما بخصوص هذا الحدث العظيم وهو لماذا اعتمد يسوع؟ وإن طرح أحد هذا السؤال يوما، فلا يجد إلا إجابة هزيلة وهي أن يسوع اعتمد لكي نعتمد نحن أيضا. مثلها مثل لماذا صلي أو لماذا صام يسوع؟ وتظل الإجابة المحفوظة التي تتناقل من جيل إلى جيل معلنة الضعف والقصور الثقافي والتغييب اللاهوتي، فيقولون بأن يسوع فعل هذا لكي نفعل مثله.
أما لكي نجيب علي هذا السؤال وهو لماذا اعتمد يسوع، فيستلزم أن نرجع إلى سفر البدايات، سفر التكوين. حينما خلق الله الإنسان، وضعه في جنة عدن (تكوين ٢). فكلمة عدن تعني "مسرة". فالله خلق الإنسان ووضعه في جنة المسرة. وكما جاء في سفر التكوين، إن دور الإنسان في الجنة، هو أن يعمل هذه المسرة ويحفظها. (وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها) (تك ٢: ١٥). ولكن لم تستمر هذه المسرة، فسقط آدم وسقطت البشرية معه وطرد آدم حاملا البشرية فيه خارج جنة عدن أي خارج المسرة.
ولما ولد يسوع، الذي هو آدم الثاني كما نسميه في التسبحة، أعلنت السماء رجوع المسرة مرة أخرى للبشرية، وذلك حينما هتفت الملائكة قائلة "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة "فرجعت المسرة مرة أخرى. ولكن هذه المرة تختلف عن مسرة آدم!! فآدم كان في وسط الجنة، أي أن المسرة حوله وهو في وسطها ولكن هذه المسرة كانت خارج آدم، أما بولادة المسيح أصبحت المسرة "في الناس" أي داخل الإنسان. وكما أوضحنا في مقالات سابقة أن المسيح جاء ليؤله الإنسان، أي ليعطيه حياته، بل ويعطيه كل ما له، و كأن عمق مسرة الإنسان هو أن يصير مسيحا تتحقق فيه عبارة بولس الرسول (لي الحياه هي المسيح) (في ١ :٢١ ).
يحمل يسوع المسيح البشرية فيه، ويذهب بها إلى يوحنا المعمدان لكي تعتمد البشرية فيه من يوحنا!! فهو لم يعتمد فقط بل اعتمدت أيضا كل البشرية فيه بل ونالت الميلاد الجديد. إن الإنسان قد خلق على صورة الله، وكان هذا الإنسان مالكا للصورة الإلهية بالروح القدس الساكن فيه، ولكن بعد السقوط أصبحت صورة الله باهتة، وسادت الخطية، ونزعت النعمة من الإنسان بل وفارق الروح القدس الإنسان. حتى كان الروح القدس يحل حلولا وقتيا في العهد القديم، فالإنسان لا يستحق أن يسكن فيه الروح القدس بصفة دائمة!! لذلك اعتمد يسوع من يوحنا واعتمدت فيه البشرية، لكي تتجدد الطبيعة البشرية، ويحل الروح القدس على المسيح، فقبول المسيح للروح القدس من الآب هو قبوله لنا وكواحد منا لكي يحفظ الروح القدس لطبيعة الإنسان، أي لكي يسكن الروح القدس في الإنسان بدون سبب للمفارقة أو الانسحاب.
يشرح القديس كيرلس الكبير هذا المعني في تفسيره لإنجيل يوحنا الإصحاح الأول فيقول: [لما صار كلمة الله إنسانًا، واقتبل الروح القدس من الآب كواحد منّا، ليس كمن يقبل شيئًا لذاته، إذ أنه هو نفسه الذي يُوزِّع الروح، بل لكي بقبوله الروح كإنسان يحفظه لطبيعتنا، ويجعل النعمة التي فارقتنا تتأصَّل من جديد فينا. إذن، فهو يقبل الروح لحسابنا نحن بواسطة نفسه لكي يستعيد لطبيعتنا ذلك الخير الأصليّ، ولذلك أيضًا قيل عنه إنه افتقر لأجلنا. فمع كونه غنيًا كإله ولا يُعوزه شيء من الخيرات، جعل نفسه إنسانًا مفتقرًا لكل شيء. فكما أنه مع كونه الحياة بطبعه قد مات بالجسد لأجلنا لكي يغلب الموت عنا ويُقيم طبيعتنا كلها معه -لأننا جميعا كنّا فيه لكونه قد صار إنسانًا- هكذا أيضًا هو يقبل الروح لأجلنا لكي يُقدِّس به طبيعتنا كلها. لأنه لم يأتِ لكونه محتاجًا شيئًا لنفسه، بل قد جاء ليصير لنا جميعًا بابًا وبدايةً وطريقًا للخيرات السمائيَّة].
وتأتي اللحظة التي يعلن فيها الآب مسرته من إبنه الحبيب بل ومسرته أيضا من الإنسان، الذي يراه في إبنه الحبيب، هذا الإنسان المتجدد والمؤهل لسكنى الروح القدس فيه. إن الآب يري ابنه الحبيب فينا!! لقد أصبحنا في المسيح موضع سرور الآب!! لقد أصبح الروح القدس يسكن فينا ولا يفارقنا!! ما أعظمها مسرة!!