ما بين مثقف ومثقف
يساهم المثقف بنسبة كبيرة في تشكيل الوعي الجمعي لمجتمعه، فالمثقف الذي يملك أدواته والذي يعرف دوره تمام المعرفة والذي يحمل هموم مجتمعه على كتفيه والمشغول دوماً بمستقبل بني وطنه بنسبة كبيرة يستطيع أن يغير بوصلة مجتمعه نحو مستقبل أفضل.
المثقف هو أحد أعمدة النخبة في مجتمعه ومن المعروف أنه إذا صلحت النخبة صلحت المجتمعات والمثقف الحق لا يجب أن يردد ما يحب أن يسمعه المجتمع حتى يرضى عنه، نعم أن المثقف لا يجب أن ينفصل عن مجتمعه ولكن دوره تصحيح المفاهيم الخاطئة كلما أمكنه ذلك حتى لو قال أفكاراً قد لا تتماشي مع التوجه العام للمجتمع.
والمثقف الحق عليه أيضاً أن ينقح أفكاره باستمرار في تواضع لأنه لا يمتلك الحقيقة، لأنه كما يقول المفكر الكبير الدكتور نصر حامد أبو زيد أن المثقف الذي يمتلك الحقيقة هو القدم الأخرى للديكتاتور، والمثقف الحق لابد وأن يمتلك الشجاعة في الوقوف أمام السلطة إذا ما تغولت وظلمت مجتمعه حتى لو قال ما لا يرضيها فيحترمه الحاكم.
وخير مثال على ذلك القصة المشهورة عن وزير داخلية شارل ديجول وسارتر ففي عام ١٩٦٨ كانت هناك مظاهرات عارمة للطلبة في فرنسا كانت تطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد أنضم إليهم جان بول سارتر ، كان الرجل قد بلغ من العمر مبلغاً وكان رئيس فرنسا آنذاك "شارل ديجول" مؤسس الجمهورية الخامسة والرجل الذي قاد بلاده نحو الحرية، قال له وزير الداخلية أنه سوف يقوم ببعض الاعتقالات وأنه سيعتقل بعض المثقفين ومن بينهم سارتر، رد عليه ديجول في حزم قائلاً "فرنسا لا تعتقل فولتير" كان فولتير في قبره منذ زمن ولكنه سيظل رمزاً للحرية في فرنسا وفي العالم وكأن ديجول يقول أن فرنسا الحرة لن تعتقل فولتير في أي زمن.
تذكر يا عزيزي حين قال فولتير يوماً "أني قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنا كي تستطيع التعبير عن رأيك"، هكذا تبني الأوطان يا عزيزي بقي فولتير وبقي سارتر وبقي شارل ديجول ولن يذكر التاريخ أسم وزير الداخلية آنذاك.
أقول هذا لأننا نرى نخبة أوطاننا من المثقفين أو المدعين يتسابقوا في إرضاء الحاكم حتى لو جار على الحقوق ويتسابقوا في إرضاء المجموع بترديد بعض الشعارات التي تحض على الكراهية والتمييز مستغلين ما يحدث من أحداث وهذ يزيد الأمور اشتعالا على اشتعال.
كم أتمنى لمثقفينا أن يعوا دورهم الحقيقي وأن يكون مشروعهم للأجيال القادمة هو التعايش وقبول الآخر وأن نتخلص من نعرات الكراهية التي يغذيها للأسف بعضاً من الدخلاء على الثقافة في مجتمعاتنا، كم أتمنى أن يتبني مثقفينا مشروعاً يكون عنوانه ما قاله الفيلسوف الكبير محيي الدين أبن عربي:
قد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان
وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أني توجهت ركائبه فالحب ديني وأيماني.