د. عبدالله شلبي يكتب: الفِصَامُ النكد وحاكمية الطاغوت
الفِكرةُ المحورية في مشروع جماعات الإرهاب الإسلامي هي، وببساطة شديدة، أن خلاصنا الحقيقي من كل علل وأسقام مجتمعنا الموسوم وفق معاييرهم بالجاهلية والكفر، يتمثل في العودة إلى الإسلام من جديد وإقامة دولته، تنفيذاً لأمر الشارع، وتطبيقاً لأحكامه، وتحكيمه في كل أمور حياتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية...، انتهاءً إلى أصغر التفاصيل في حياة الأفراد والمجتمع بأسره، ولذلك فمشروعهم منذ البداية يستهدف تحطيم مملكة البشر، مُغتصبي الحاكمية الإلهية، ومُدعي الربوبية، ليُقيم مملكة الله في الأرض والتي يتم تسييرها وفق منهج الله وشرعه.
وتَضَعنا جماعات الإرهاب الإسلامي منذ البداية أمام خيار وحيد وحتمي، إما أن نقبل مشروعها، أي نقبل ما يقصدونه بالحاكمية الإلهية، أو نرتضي الجاهلية وحاكمية الطاغوت، إما أن نتخذ منهاجهم كمدخل لفهم المجتمع وتغييره وتنظيمه وإدارته، أو نقع في هُوة المعصية، ونُحشر في زمرة الكافرين الجاحدين بزعم أننا نتبع مناهج الطاغوت، ولذلك فهذه الجماعات تمنح نفسها سلطة إعطاء صكوك الغفران وشهادات التكفير لمن تشاء وتريد، لأن أعضائها يتوهمون أنهم وحدهم يملكون المعرفة اليقينية، ويحوزون الحقيقة المطلقة، وهم لا يجيزون لغيرهم الحق في ادعائها أو الشك فيما لديهم أو حتى مناقشته، وفي تقديري، أن وهم الانفراد بحيازة الحقيقة المطلقة وامتلاك المعرفة اليقينية وحجبها عن الآخر، من شأنه أن يحدَ من سلطان العقل، ولذلك فالمشروع هذه الجماعات يصادر العقل والعلم الإنساني بزعم قصورهما ومحدوديتهما، ويهمش الإنسان كقيمة مُبدعة، ويحل الله مكانه، وهي رؤية تؤسس وترسخ الاغتراب الكوني والمجتمعي للإنسان كقيمة مبدعة، وتحاول تنظيم المجتمع الإنساني من خارج المجتمع وتاريخه.
وفي تقديري، أن قيام نظام سياسي يطبق مبدأ الحاكمية الإلهية كما تصوره أعضاء جماعات الإرهاب الاسلامي، ليس في حد ذاته ضماناً لتحرر المصريين وخلاصهم من كل صنوف الاستبداد، لأنه يؤكد الاستبداد والطغيان والتسلط باسم الدين، ويؤدي تطبيق هذا المبدأ إلى وقوع المصريين في نوع جديد من الاستبداد والتسلط، فالنظام السياسي المتُصور وفقا للحاكمية الإلهية، يعني ممارسة رجال الدين للسلطة السياسية واحتكارها على مستويات عديدة أهمها احتكار التعبير السياسي المنظم من خلال الهيمنة على الحكم، وإقصاء كل التيارات السياسية الأخرى المختلفة معها أو "أحزاب الشيطان" من اليسار واليمين، والتي يمتنع قيامها شرعاً، علمانية كانت أو دينية أخرى، ونتيجة لهذه الهيمنة سيصبح لرجال الدين الأغلبية الحاسمة والقول الفصل في كل مؤسسات الدولة، وإشرافهم على توجيه كل أمورها في الداخل والخارج لضمان عدم الخروج عن صحيح الدين الإسلامي وتعاليمه.
كانت مهمة حسن البنا (1906 – 1949)، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، هي بعث الإسلام الأصولي وليس الاجتهاد فيه، وقطع كل محاولة للتصالح أو التوفيق مع الحضارة الإنسانية الحديثة، ورفض كل مظاهر التقدم فيها، فهي، وعلى حد تعبير البنا نفسه، "حضارة مادية مريضة ملوثة بالإلحاد والإباحية والأنانية والربا" ، وأن "إسلامنا وحده بشموليته وتفرده قادر على التصدي لكل تفاصيل حياة الفرد والمجتمع والدولة دون حاجة إلى أي اقتباس أو استعارة من حضارات وأنظمة أجنبية.
وينكر سيد قطب (1906 – 1966) المُنظر الرئيسي المُعتمد للإرهاب الإسلامي المعاصر، أن تكون هناك ضرورة للاجتهاد؛ "فنحن جميعاً جاهليين، ولم نصبح مسلمين بعد، وعلينا أولاً الإقرار بأن الحاكمية لله وحده وهي تتمثل في شريعة الله والتي تعني كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية في أصول الاعتقاد والحكم والأخلاق والسلوك والمعرفة، وعلى ذلك فليس من حق بشر أن يُشرع لبشر، وليس بمستساغ الخروج على شرع الله أو الحاكمية الإلهية بدعوى التعارض بين الشرع وبين مصلحة البشر؛ فالله هو خالق الكون بما فيه ومن فيه، ولأن مصلحة البشر متضمنة في شرع الله، وإذا ما بدا للناس ذات يوم أن مصلحتهم في مخالفة ما شرعه الله لهم، فهم أولاً واهمون، وهم ثانياً كافرون".
وفي رأي قطب، أن المسار الحضاري الإنساني الذي خبرته المجتمعات الأوروبية منذ تفكك وانهيار نظم العصور الوسطى الاقطاعية والمتمثل في الإصلاح الديني، والعلمانية، والعقد الاجتماعي، والتنوير، ثم الليبرالية والديمقراطية كنظم حاكمة؛ قد صرفت أوروبا لا عن تصورات الكنيسة فحسب، وإنما صرفتها كلية عن منهج الله، فتم الانفصال بين التصور الاعتقادي الإلهي، ونظام الحياة الاجتماعية، ومن ثم حدث ما أسماه قطب "بالفصام النكد" حيث انفصمت حياة المخاليق عن منهج الخالق، وكان لهذا الفصام آثاره المدمرة في أوروبا، ثم في الأرض كلها، فكانت الجاهلية، ويعني بها عبودية الناس للناس بتشريع بعض الناس للناس، وتُصبح المهمة، في رأيه، هي إعادة تعبيد الناس لربهم بتلقيهم منه وحده تصوراتهم وعقائدهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم ونظم حياتهم بكاملها، فيتم بذلك التحرر من عبودية العبيد وتحطيم الطاغوت، والإسلام وحده كفيل بذلك، وهو لا يقبل أنصاف الحلول: إما حكم الله، وإما الطاغوت أو حكم الجاهلية.
ويخلص سيد قطب، إلى أن الإسلام جاء كإعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، بإعلان ألوهية الله وحده للعالمين، وكان هذا إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً، والذي يدرك طبيعة الإسلام، يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي له في صورة الجهاد بالسيف للانقلاب على المجتمعات الجاهلية وتحطيمها ومن ثم فالحرب ضرورية للقضاء على المجتمعات الجاهلية المعاصرة، أو، إن شئنا الدقة قلنا: للقضاء على حضارة العصر، هذه الحضارة التي أخطأت طريقها يوم جعلت الملابسات النَكدة التي صاحبت العلمانية والعقد الاجتماعي والتنوير والليبرالية والديمقراطية، تصرف الناس والمجتمعات عن منهج الله، وتوقع الفصام النكد في حياتهم بين شريعة خالقهم ونظام حياتهم الاجتماعية.
ومنذ بدايات الربع الأخير من القرن العشرين وحتى اللحظة الراهنة شهد المجتمعات العربية والإسلامية وفي المقدمة منها المجتمع المصري، ظهور العديد من جماعات الإرهاب الإسلامي ، أخذت على عاتقها مهمة تجسيد التصور القطبي وجعله حقيقة واقعية، فدعت إلى الحاكمية الإلهية، وأقرت بجاهلية المجتمعات والبشر ووسمتهم بالكفر بحكم أنها محكومة بالطاغوت متمثلا في الدساتير و القوانين الوضعية التي صنعها البشر ، وذهب بعضها إلى حد الانسلاخ عن المجتمع الكافر وهجره، وتكوين جيتو Getto من الأتباع المهاجرين من الزمان، المخاصمين للعصر كله والرافضين التفاعل مع ما حولهم، منتظرين يوم الانقلاب والعودة لتعبيد الناس لربهم. وفي حين اتجهت جماعات إرهابية إسلامية إلى انتفاء قضايا محدودة للغاية لإثبات تميز الإسلام وتفرده، واختلافه عن المفاهيم والقيم الغربية الكافرة، كضرورة عودة النساء إلى الحجاب والنقاب، وتأسيس بنوك إسلامية غير ربوية، وضرورة إقامة الحدود الشرعية، والتفرقة في المعاملة بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى داخل المجتمعات الإسلامية؛ فإننا نجد جماعات أخرى قد ارتأت أن الإسلام انتصر بالمجاهدين لا بالفقهاء والدعاة، وبالسيوف لا بعلوم الكلام، ومن ثم تحول الدعاة والمصلحون إلى مجاهدين يحملون أسلحة بيضاء وسوداء، وألوان أخرى عديدة، يهاجمون الحداثة ويكفرون أهل الفكر والإبداع ويبطشون بمن خالفهم الرأي ويحلِّون ويهدرون دمه، ويدعون الوصاية على المجتمع الجاهلي الكافر ويسعون إلى قلبه. وعلى يد هذه الجماعات، انقلبت وعود المصريين مع المستقبل إلى سباقات نحو الماضي لاستعادة ما كان للأسلاف العدول من بأس وقوة ومجد وسلطان، ويوم أن كانت إحدى أقدامهم في اسبانيا والأخرى في الصين.
وفي تقديري، ، أن الدعوات التي تشيعها وتروج لها جماعات الإرهاب الإسلامي تنطوي على ِإعلان بإقالة العقل المصري من مهامه ودفعه إلى الأفول تماماً بدعوى الحاكمية الإلهية وعجز البشر وقصورهم عن التشريع لأمور دنياهم وتنظيمها وإدارتها وفق العقل والعلم والدستور والقانون والمصلحة والإرادة الشعبية الحرة العاقلة، وبحيث تكون المحصلة استقالة الإنسان المصري وعجزه عن القيام بدور بناء في بناء مجتمع عصري، وانسحابه، أو ابعاده، عن ساحات الصراع الأساسية من أجل العقلانية والحداثة والاستقلال والحرية والكفاية والعدل والكرامة الإنسانية، ثم دفعه إلى تبني الخرافة والجهل، وإغراقه في معارك وهمية حامية الوطيس خارج الزمان والمكان مع أشباح لمشكلات مهترئة أحياناً، ومنقضية فيما وراء الحياة والتاريخ.
د. عبدالله شلبي - أستاذ علم الاجتماع المشارك المتفرغ بجامعة عين شمس