نحنُ.. والفِكرُ الجمعي الأفقي
من أصعَب التحديات التي يُضطرُّ أحرار الفِكر لمواجهتها أزمة الصّراع مع أرباب الفِكر الأفقي الذي لا يقبل غَيره أو عكسه أو نقيضه أو مُجرَّد احتماليَّة عدم صوابه، فهؤلاء يرونَ في كُل فكرةٍ جديدةٍ وحشًا يُهدد سِياج دائرة الكسل العقلي التي يرتاحونَ فيها، وإن كانوا معروفينَ ببلادة ردود الأفعال بوجهٍ عام إلا أنَّ إشعال شمعة فكرةٍ جديدة يستفزُّ سُباتهم فيجتمعون على محاولات نسفِها بأساليبهم التقليديَّة التي غدَت مكشوفةً مُعتادة لعجزهم عن الإبداع أو الابتكار.
يمتازُ الفكرُ الأفقي التقليدي بالتكرار وانعدام الأصالة، مُكرروه يجترّون أساليبَ وسلوكيَّاتٍ وكلماتٍ مُستهلكةٍ مُعادة دون أن يشعروا بانتهاء صلاحيَّتها للزمن الذي يعيشون فيه، من أبرز أساليبهم التي يرونَ فيها إخراسًا للمُتلقي ردّهم على رأيه بنصٍ من الكتاب المُقدّس للدين الذي ينتمون إليه أيًا كان، وبهذا يعتبرون أنفسهم قد أفحموه وحاصروه فلم يعُد له غير الاستسلام والتسليم أمام كلام الإله، مع أن هذا النص قد يكون خاضعًا لتفاسير مُرتبطة بظروف العصر الذي جاء فيه، أو جاءت ردًا على سؤالٍ يتعلّق بحكاية تخص فردًا من المؤمنين بعد أن أوضح للنبي ظروفه وسأل عنها، وليست ظروف البشر واحدة لا سيما مع تطوّر ظروف العصور! وإن لم يكُن أفقي الفكر من المُنتمين إلى أي دينٍ فإنه قد يتذاكى ويأتي بمقولة من مقولات أحد مشاهير المُفكرين بعد أن سمعها صُدفةً رُغم أن لا علاقة لها بالموضوع المذكور من قريبٍ أو بعيد!
أُفقيّة الفِكر الجمعي سلاحٌ ذو حدين: فبينما يشعر الإنسان بشيء من الاستقرار أمام ردود الأفعال المتوقَّعة دائمًا؛ يصعُبُ على الإنسان المُختلف التعبير عن آرائه لأن ردود الأفعال تجاهها ستُهدد سلامه النفسي، إن لم تتطور إلى صورٍ أكثر عُنفًا تُهدد مصادر رزقه وعلاقاته الشخصيَّة وصولاً إلى تهديد حياته، وإذا كانت المُجتمعات في الماضي تُلقي باللوم على سُلُطاتٍ عُليا تمنع حُرية التعبير عن الرأي؛ فقد سقطَت اليوم ورقة التوت الأخيرة عن تلك الحقيقة التي مفادُها أنَّ احتشادُ بضع أصواتٍ جاهِلة عبر وسائط التواصُل يُمكنهُ تدمير ما تبقى من حياة انسان وسُمعته ومُستقبله بصورةٍ أشدُّ فتكًا من أي سُلطةٍ في عهودٍ مَضَت.
كي تُعبّر عن رأيك بصدقٍ وبَسَالة واستمراريَّة في عالمنا الناطق باللغة العربيَّة؛ عليكَ أن تُلبسَ شخصيَّة النمِر الثائِر على التخلُّف رداء قطٍ وديعٍ يستمتع بالإنصاتِ والمُشاهدة بينما يلعق ذيلهُ الناعم دونَ مُبالاة! لأن عواقب الإفصاح عن شجاعتكَ نهايتها اقتلاع عينيكَ واجتثاث مخالبك من جذورها وتحويل فرائك المسلوخ إلى مداسٍ يتراقص عليهِ عُشَّاق الجُبنِ والجهل.
يبدو أن لكل زمنٍ فُرسان رأيه الذين لا يُمكنهم الترجُّل عن صهوة جواد التعبير عن الرأي مهما كانَ فاتِكًا، ويبدو أن تلكَ الأقلام التي حاربَت في الماضي ليُشرقَ علينا نور الحاضِر في تفاصيلَ أصبحَت مُمكنة بعد أن كانت مُستحيلةً تُسلّم ميراثها لأجيالٍ جديدة، ويبدو أن الناجينَ من كهوف السُّبات والتخدير لا يُمكنهم استمراريَّة العَيش دون المُشاركة في إيقاظ الغافلين.