دردشة…بالعربي الفصيح:
كيف تسللت ثقافة مناديل المرحاض إلى المهجر؟!!
كنت في الإسكندرية من وقت قريب أتجول في مول تجاري من أكبر المولات هناك وهو "سان ستيفانو"، الذي يلتصق معمارياً بفندق الـ " فور سيزونز" العالمي، أفخم فنادق الإسكندرية أيضاً! و من خلال منفذ داخلي عريق، يستطيع نزيل الفندق أن يعبر للتسوق داخل المول! لكني تعجبت جداً عندما دخلت دورة مياه هذا المول، ورأيت عامل النظافة عند الباب يقدم قطعة صغيرة جداً من مناديل المرحاض للزبائن! والأعجب أنه لم يكن هناك مناديل داخل أكشاك المراحيض نفسها! أيعقل أنه في عام ٢٠٢٣ لازلنا نمارس هذا التخلف الحضاري؟! لكن ما اعتدنا أن نراه (أو لازلنا نراه) في الاستراحات الشعبية على طرق السفر، لا يجب أن يطبق في المولات التجارية، خاصة إن كانت تخدم واجهة سياحية!
لا أعتقد أن هذا التصرف الشاذ كان وليد اللحظة، وأظن أنه كان يتم بمعرفة إدارة المول ايضاً! لأن العقلية المصرية بكل أسف أصبحت لا تبالي بسمعتها ولا مظهرها داخلياً (ولا خارجياً)؛ بل تفتخر بمستوى خدماتها (الرديء جداً) و لا ترغب في تطويره من أجل سياحة ما أو أجنبي! فباتت تتجاهل وجود السائح الأجنبي، و تحتقر كرامة المواطن المصري بهذا المستوى المتدني للخدمات! فمصر لا ترى غير المحليين، و يا ليتها توفي حقهم!
في نفس الرحلة، اصطحبت زوجتي إلى رويال پالاس كيمبينسكي يوم ٢٢ أغسطس ٢٠٢٣ لحضور حفل عمر خيرت الشهير (الذي تم إلغائه)، و بغض النظر عن البطء الشديد في بيع المشروبات في القاعة الخارجية، وتأخر العرض بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى سوء نظام الحجز الذي أدى إلى تجاوز عدد كراسي القاعة (و هو السبب الرئيسي لإلغاء الحفل)، إلا أني، إلى هذه اللحظة، لم استرد ثمن التذاكر! فحينما حاول مسؤولي الحفل حل هذا المأزق، قرروا، بدلاً من أن يردوا أموال التذاكر إلى كل هذا الحشد الغفير، أن يقيموا حفلاً آخراً مجانياً لعمر خيرت (غير محدد التوقيت) كتعويض لجمهور الحفل الملغي!! لكن ماذا عن الزوار، أمثالي، الذين لا يقيمون بمصر!! طبعاً مفهوم استرداد الأموال بشكل عام غير متداول في القواميس المصرية! و لهذا يرتجل المصريون في أمور كهذه، و في ارتجالهم يخدمون المحليين فقط! و لكي يُثبت أيضاً ما قلناه أعلاه، أن حتى المواطن المسكين لا يحظى بخدمة جليلة، فقد لغي ايضاً هذا الحفل البديل المزعوم لأسباب غير معروفة! و كأن مصر تقدم لنا للمرة الثانية ورقة مرحاض أخرى لا تكفي احتياجاتنا.
للأسف يتكرر نفس مشهد ضيق الأفق وعدم الرغبة في التطوير و تقديم أقل القليل في أكثر من موقف و مكان و زمان آخذاً صوراً عديدة، حتى في خدمات كنائس المهجر اليوم! هل تعلم يا عزيزي أن كنائس المهجر أسست أساساً على يد البابا كيرلس السادس، هذا القديس العظيم، ذو الرؤية الواضحة و الصائبة! فهو كان يهدف إلى خدمة من هم خارج الكنيسة بالإضافة إلى من هم بداخلها! أي العمل التبشيري و الكرازي للكنيسة بحسب الكتاب المقدس! وهذا ما تسلمه الآباء الكهنة الأوائل بالمهجر بالفم من قداسة البابا كيرلس شخصياً آنذاك،؛ و هذا الفكر الكتابي يؤكده أيضا أبونا تادرس يعقوب ملطي في أحد ڤيديوهاته الأخيرة، بقوله أن دور الكنيسة في المقام الأول هو التبشير و الكرازة! لكن للأسف مع مرور الزمن، وفساد العقلية والثقافة، أصبحت تبنى الكنائس بغزارة في المهجر، فقط لخدمة الأقباط المهاجرين هناك! و تقلصت تدريجياً روح الكرازة إلى أن تلاشت تماماً من العقول! فأصبحت الكنيسة هي الأخرى تخدم المحليين فقط، على نهج الثقافة المصرية الأم!
ولهذا أصبحت معظم كنائس المهجر رجعية غير كارزة بل وغير قادرة على التبشير (لا بالخارج ولا بالداخل)! ورغم اكتظاظ الكنائس اليوم بجيل ثانٍ وثالث من الأقباط، ونسبة كبيرة من الحبشة والإرتريين، وأيضاً عائلات حديثة مختلطة الأجناس، من هم لا يفهمون ولا يميلون إلى العربية ولا القبطية (أو اليونانية) تصر الكنائس أن تعلم وتردد الألحان باللغة القبطية في صلواتها، بحجة ألا تفقد الكنيسة هويتها العرقية! و هذا كله على حساب فهمهم لما يرددون، و بالطبع فهم الأجانب والأجيال الحديثة المنضمة إلى الكنيسة!
ومع غياب الفهم والنمو الروحي الناتج من هذا التعليم التحفيظي السائد، تظهر الكنيسة لامبالاة ملحوظة في هذا الصدد! لدرجة أن هناك فكر عقيم منتشر لدى أغلبية أفراد الشعب من الجيل الأول يزعم بأن من يود الانضمام إلى الكنيسة القبطية، يجب أن يؤقلم نفسه على ثقافتها ولغتها وليس العكس!! وهذا لم يكن ابداً فكر الكنيسة الأولى، أيام الرسل، التي خاطبت كل البشر بلغاتهم الأم! أما نحن فقد حولنا اللغة من وسيلة للتفاهم والتواصل بين الناس و الله إلى طقس من الطلاسم! من المحزن أن نجد هذا السلوك الموبوء يتسلل إلى كنائسنا اليوم، فترفض تعليم وتربية أجيال جديدة تستوعب جوهر المسيحية و تمتد بها إلى ما حول العالم، في سبيل إعلاء تراث أرضي بائد زائل،!
حينما نقرأ رسالة معلمنا القديس بولس الرسول إلى أهل كورنثوس الأولى (الإصحاح الرابع عشر) نراه منتقداً موهبة التكلم بألسنة الملائكة؛ فيطلب الرسول ممن لهم هذه الموهبة أن يصلوا حتى ينالوا موهبة ترجمة ما يقولون، من أجل بنيان الآخرين! لأن من يصلي بلسان غريب فهو يصلي بالروح فقط، لكن ليس بالذهن؛ لذلك يؤكد عليهم بولس الرسول أنه يجب على الروح و الذهن أن يعملا سوياً! فإذا كان القديس بولس لم يستح أن يوبخ و يوجّه من له موهبة من مواهب الروح القدس بهذا الشكل، فكم بالحري كان سينتقد تمسكنا بأن نصلي بشفاهنا لغة غريبة لا نفهمها لمجرد افتخارنا بهوية أرضية جار عليها الزمن! و يعقِّب بولس الرسول ايضاً في رسالته إلى غلاطية (الإصحاح السادس) على عدم الافتخار بالأمور الأرضية الزائلة مؤكداً أنه "حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح"! لأن هذا ما يجب أن يكون قمة فخرنا، لعلنا ندرك ونفهم و نطبق، فنشفى أخيراً من اللامبالاة المصرية التي اعترتنا نحن أيضا حتى في هويتنا المسيحية!
بكل تأكيد أن ما يحدث في كنائس المهجر اليوم ليس طبقاً لتعاليم المسيح، بل بكل اسف لتعاليم العالم! أما تعاليم المسيح فتنادي بالعطاء السخي الامين، و تسخير الميل الثاني بالفطرة و المحبة، والتفاني من أجل نمو الآخر، و تعضيد صغار النفوس…الخ!
نسأل الله أن يرشدنا بروحه إلى تعاليمه لنحيا فيها و بها آمين.