منسي موريس يكتب: تأملات فلسفية حول القيامة
تعد حادثة قيامة " السيد المسيح " من الموت هي الحدث الأهم والأعظم في تاريخ المسيحية ككل بل أن مصيرالمسيحية يتوقف على حقيقة هذا الحدث الذى يمثل حجر الزاوية للإيمان المسيحى ، وهذا المقال ليس المراد منه سرد وحصر لكل الأدلة والحجج والبراهين التي تؤيد حقيقة " القيامة " أو تعارضها لكن القصد منه هو تأمل فلسفى لهذا الحدث من خلال ثلاثة جوانب " فلسفية ، تاريخية ، وجودية " وقد يقول قائل ما علاقة التفلسف في مثل هذه القضية ؟ والجواب لأننى أرى أن الفلسفة لها دور هام ورئيسى لأن القضية التي نحن بصددها الآن ذات طابع ميتافيزيقى والميتافيزيقا مبحث رئيس في عالم الفلسفة وهذا سيتضح للقارئ أثناء عرضنا للموضوع.
" القيامة" هي حدث تاريخى بالنسبة لكل مسيحي أي أمر حدث تاريخياً ووقع وليس مجرد رمز أو قصة مجازية أو حتى أسطورية وهنا تظهر إشكالية كبرى تتعلق بالبحث التاريخي ومنهجيته لأن التاريخ عندما يذكر لنا بعض الأحداث التي تحتوى على خوارق العادات ومعاجزالأمور هنا يظهرالخلاف بين الباحثين فالطرف المؤمن بالوجود الإلهى والوحى يمكنه بسهول الإيمان والإعتقاد بصحة هذه الأحداث أما الطرف الذى يُفكر بطريقة مادية بحتة إلحادية سيعتبر كل هذه القصص لاتتعدى كونها مجرد تخاريف وأكاذيب وأمور مُختلقة لم تقع ، وعلة هذا الخلاف في حقيقته لاترجع إلى التاريخ فحسب لكنها مشكلة فلسفية بأمتياز "كيف نقرأ التاريخ "؟ وإلى أي فلسفة نحتكم إليها قبل قراءة الأحداث هل نحتكم إلى المنظورالمادى الذى يعتبر المعجزات مجرد قصص وحكايات لا أصل واقعى وحقيقى لها؟ أم نحتكم إلى المنظور الروحانى الذى يرى أن المعجزات ممكنة الحدوث؟ لذلك قبل البدء في الدخول إلى عُمق هذه القضية علينا مناقشتها من زاوية فلسفية أولاً ثم بعد ذلك نتطرق إلى الجانب التاريخي منها والوجودى.
أولاً الجانب الفلسفى : الفئة التي لاتؤمن بالأديان وتتبنى المنظور اللادينى أو الإلحادى تعتقد بشكل جازم أن المعجزات مستحيلة عقلياً وعلمياً ولايمكن أن تحدث في عالم تحكمه قوانين صارمة لأن هذا يعد إنتهاك وكسر للقوانين الكونية وأن الإله لايمكنه أن يتدخل بهذه الصورة مُطلقاً كما يعتقد بعض الفلاسفة مثل " أرسطو ، اسبينوزا ، ديفيد هيوم ، دوكينز وغيرهم ،... " وبطبيعة الحال الشخص الذى يتبنى هذه الرؤية يعتقد إعتقاد مُسبق أن التاريخ لايمكن أن تحدث فيه مثل هذه المعجزات لأنه يحتكم إلى منظوره الفلسفى قبل كل شيء ويحكم على التاريخ بهذا المنظور ووقتها يتنكر لكل ما هو فوق طبيعى وخارق للعادة وأبدى وخالد ومُطلق ، وعلينا محاكمة هذا المنظور بقوانين العقل أولاً كى نكشف مدى خطئه في نظرته للعالم وقوانين الطبيعة لذلك علينا أن نطرح أهم الأسئلة بخصوص المعجزات هل هي تتعارض مع قوانين الطبيعة وتكسرها؟ هل هي ممكنة الحدوث؟
يتصور الغير مؤمن أن المؤمن ساذج يؤمن بخرافات ولايحترم قوانين الطبيعة فالمعجزات هي خرق للقوانين الطبيعية " فقيامة المسيح من الموت " هي كسر للقانون الذى يخبرنا أن لا رجوع لميت إلى الحياة مرة أخرى وكأن المؤمن لا يعلم هذه الحقيقة فنحن نعلم أن القانون العام هو لا وجود لقيامة الأموات ولكن هل قيامة شخص من الموت تعتبر فعلاً إنتهاكاً لهذا القانون العام؟ بالطبع لا فقيامة المسيح من الموت لم تكسر هذا القانون مُطلقاً والقانون مازال موجوداً إلى الأن فالطائرة مثلاً التي تحلق في الفضاء هل كسرت قانون الجاذبية؟ بل تأكيد لا فالقانون موجود وفاعل في الوجود لكن تدخل مُحرك الطائرة هو الذى تسبب في رفعها لأعلى ولكنه لم ينتهك القانون ، فالقول بأن المعجزات مُخالفة لقوانين الطبيعة هو قول يمكن أن تدحضه الفلسفة العقلية ، وهنا أتذكر تعليق المفكر والفيلسوف " سى أس لويس " على المعجزات فكتب يقول " إن وضعت هذا الاسبوع ألف جنية فى درج مكتبى وأضفت ألفين فى الأسبوع التالى وألفاً أخرى في الأسبوع التالى ، فقوانين الحساب تتيح لى أتنبأ أنى عندما آتى إلى الدرج بعدئذ سأجد أربعة آلاف جنية ،لكن هب أنى لم أجد إلا ألف جنية فقط فماذا أستنتج أن قوانين الحساب قد كسرت؟ بالطبع لا ولكن سأستنتج أن لصاً كسر قوانين الدولة وسرق ثلاثة آلاف جنية من درجى " فيريد فيلسوفنا أن يقول لنا من خلال هذا المثال الرائع البسيط والعميق فلسفياً أن المعجزات لاتكسر النواميس الكلية للطبيعة لكنها تثبت تدخل العنصر الإلهى في الوجود دون أن تتأثر هذه القوانين أو تُكسر ولا يوجد إعتراض عقلى أو منطقى أو علمى يقوض فكرة المعجزات لأنها لاتُخرب آليات عمل الوجود .
ونأتى للسؤال الآخر هل المعجزات ممكنة الحدوث؟ الذين لايؤمنون بالمعجزات يعتقدون أنها مستحيلة كما ذكرت آنفاً وعلينا أن نجادل من ناحية فلسفية هل يوجد شيء فائق للطبيعة ويتجازها العقل يقول نعم ويجزم بوجود هذا الشىء ولنا في قضية وجود الوجود من العدم أكبر مثال على ذلك قد يرى أحدهم أن تكون الوجود لايعد معجزة لكن لو نظرنا إليه بعيون الفلسفة العقلية سنجد أن الوجود لايحمل في طياته عوامل وجوده بل هذه العوامل خارجة عنه ومُضافة إليه من علة خارجية كالحياة والوعى وكينونة الوجود ذاته وكل ما هو مُضاف إليه من الخارج لاينتمى إلى عالم الوجود الحاضر لكنه ينتمى إلى عالم الأزل واللامتناهى وهذا العالم طبيعته تتناقض مع طبيعة الوجود المتناهى الحادث في الزمان وهذا أكبر برهان ودليل على أن هناك عنصراً غير محدود تدخل وأوجد هذا الوجود وهذا يعطينا ضمانة عقلية ومنطقية أن التدخل الإلهى يدخل في باب الممكنات لأنه حدث بالفعل ونشاهد آثاره واضحة مكشوفة على كل مستويات الوجود وهذه الضمانة العقلية الفلسفية تجعلنا نُقر بأن المعجزات ممكنة الحدوث .
ثانياً الجانب التاريخي : بعد أن ناقشنا سؤال كيف نقرأ التاريخ ووجدنا أن المعجزات لاتكسر قوانين الطبيعة ولايوجد مانع فلسفياً أو عقلياً أو علمياً وممكنة الحدوث فنكون بذلك بنينا تصور فلسفى للتاريخ يتيح لنا إمكانية حدوثها في التاريخ وهنا ننتقل إلى الجانب التاريخى للقضية ، قد شكك الكثيرين في حادثة القيامة منهم من زعم أن الصلب لم يحدث من الأساس ومنهم من إعتقد أن المسيح شخصية غير تاريخية وهذه الإنتقادات لايمكن أن نعطيها أهمية في الرد عليها لأن الآن لايوجد عالم تاريخ محترم أكاديمى يشكك في وجود المسيح وصلبه حتى أن كبار نقاد المسيحية في العصر الحديث أمثال " دوكنيز ، بارت إيرمان " يؤمنون بأن المسيح شخصية تاريخية ولكن الخلاف يكون على القيامة هل هي حدثت بالفعل أم لا ؟ هل يسوع التاريخ هو نفسه يسوع الإيمان أم لا ؟ فالجدال حول وجود المسيح وصلبه هو جدال عقيم لايخوض فيه حتى كبار المتخصيين ، هناك بعض الإعتراضات على حادثة القيامة تقوم على أساس القول بوجود تناقضات نصية حول الحدث نفسه كما عرضته الأناجيل الأربعة فإختلاف الروايات بالنسبة لهم تطعن في الحدث ككل ودون الدخول في تفاصيل هذه الإعتراضات يمككنا الرد عليها بكل سهولة حدث مثل هذا من الطبيعى أن يروىَ بشكل متعدد لكن المضمون واحد لأنه حدث فائق للتصور البشرى ولكن تكون الإعتراضات فعلاً جد قوية وحاسمة لو كان الخلاف على " جوهر الحدث " أي نجد إنجيل يقول أن المسيح قام من الموت وإنجيل آخر يقول لم يقم من الموت ، فالسرد الإنجيلى هو سرد لاهوتى بأمتياز يركز على الحدث الأكبر والهام والمسيحية قامت على هذا الحدث الأعظم ولو كان حدث خلاف بين تلاميذ المسيح حول قيامته لكانت المسيحية إنتهت وماتت قبل ميلادها لأن إتفاقهم على القيامة هو الذى دفعهم للإيمان بالمسيح والتبشير والكرازة بأسمه والتضحية بحياتهم لأجل هذه الشهادة التي عاينوها وشاهدوها بأم أعينهم .
" نص كورنثوس 15 صوت صارخ في التاريخ " كتب " بولس الرسول" هذا النص إلى أهل كورنثوس والذى مضمونه "1 وأعرفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به، وقبلتموه، وتقومون فيه،
2 وبه أيضا تخلصون، إن كنتم تذكرون أي كلام بشرتكم به. إلا إذا كنتم قد آمنتم عبثا!
3 فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضا: أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب،
4 وأنه دفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب،
5 وأنه ظهر لصفا ثم للاثني عشر.
6 وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمئة أخ، أكثرهم باق إلى الآن. ولكن بعضهم قد رقدوا.
7 وبعد ذلك ظهر ليعقوب، ثم للرسل أجمعين.
8 وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا."
هذا النص كُتب في الخمسينات من القرن الأول أي بعد قيامة المسيح بفترة وجيزة وفيه يقر " بولس الرسول " أن المسيح ظهر لجماعة من الناس أكثر من خمسمئة شخص والسواد الأعظم منهم أحياء ويوضح حقيقة أخرى هامة أنه بشرهم بهذا قبل كتابة هذا النص وهنا يتضح أن قيامة المسيح حدث لم يتم إختراعه وإختلاقه بعد مدة طويلة من الزمن لكن هذه البشارة تمت بعد قيامة المسيح مباشرةً أي لايوجد مجال لأختراع قصص لاحقة وإستشهاد بالخسمئة شخص دليل قوى جداً يدل على أن هذا الحدث يمكن التحقق منه من هؤلاء الأخوة وأنه ليس حدثاً فردياً بل جماعياً ، وفى نفس الوقت ملحوظة هامة أن " بولس الرسول " نفسه كان يضطهد كنيسة الله لأنه كان يرى أن المسيحية مجرد هرطقة وبدعة لكن الذى جعله يتحول كل هذا التحول ويؤمن بالمسيح ويضحى بحياته من أجل هذا الإيمان واقعة ظهور المسيح له .
هنا يتضح لنا أن التاريخ يخبرنا أن جماعة من الناس كانوا خائفين لم يكونوا أصحاب قوة أو سُلطة قالوا أنهم شاهدوا قيامة المسيح من الموت وهذا الحدث غير حياتهم بشكل جذرى وتم إضطهادهم وخسروا كل شيء وضحوا بحياتهم لأجل هذه الشهادة ولم يكسبوا منها شيء بل فقدوا أرواحهم وتم تعذيبهم بكل بشاعة وفظاعة والعقل يقضى أنه ليس من المعقول أن كل هؤلاء كاذبون لأن الكذب يكون الغرض منه النجاة من تهديد سواء بالسجن أو بالقتل أو لكسب أشياء مادية كالسُلطة والمال والجنس لكن هؤلاء التلاميذ لم يكسبوا أي شيء من إدعائهم هذا وإيمانهم بهذا الحدث قادهم للموت والتعذيب والقتل ، في نفس الوقت لا نجد تفسير يهودى منطقى يُفند إدعاء التلاميذ بقيامة يسوع من الموت بل نجد صمت تام وهذا يؤكد أن قيامة المسيح ليست خرافة بل شيء حدث بالفعل وكان اليهود في مقدروهم أن يقضوا على هذه البدعة لو كان لديهم تفسير آخر أقوى من تفسير التلاميذ .
كل هذا يؤكد لنا أن هناك شيء غريب حدث وأن التلاميذ فعلاً شاهدوا المسيح وهنا يحدث خلاف آخر البعض من الذين لايؤمنون بالقيامة يقولون أن الذى حدث مجرد هلاوس عقلية وبصرية جعلت التلاميذ يُخيل إليهم أنهم شاهدوا المسيح ولكن في الحقيقة هي مجرد هلاوس وهذا التفسير غير معقول بالمرة فمحال أن تحدث هلاوس جماعية دفعة واحدة لجماعة وفى وقت واحد ومع أناس مختلفين وكيف للهلاوس أن تغير شخصية مثل " بولس " من شخص مُضطهد عنيد قاسى لشخص يُبشر بمحبة الله ويضحى بحياته في سبيل الإنسان؟!
تفسير آخر أيضاً يقوله الغير مؤمنين بالقيامة يقولون فعلاً التلاميذ شاهدوا شيء لأنهم محال أن يكذبوا كذبة مثل هذه لكنهم شاهدوا رُؤىً مثل بعض الرُؤى التي يراها الناس للقديسين أو للعذراء مريم هذا أيضاً تفسير غير مُقنع لأن هؤلاء التلاميذ يقولون قيامة من الموت وليس مجرد رؤيا وأنهم شاهدوا المسيح شهادة مادية وأكل معهم وهم قادرين على التمييز بين الرؤيا والواقع وهذا واضح في العهد الجديد ثم أن بشارتهم أصلاً مبنية على القيامة وليست على أحلام وخيالات ، يبقى التفسير الأكثر منطقية والأقوى أن المسيح بالفعل قام من الموت وبما أن العقل يُرجح إمكانية حدوث المعجزة فالمسيح قام حقاً لأنه لايوجد تفسير آخر أكثر منطقية لتفسير هذا الحدث .
ثالثاً الجانب الوجودى : قيامة المسيح ليست مجرد حادثة وقعت في الماضى والتاريخ لكن المسيح حاضر في الزمان وكل زمان إذا كانت معجزة المسيح الكبرى كانت هي القيامة فهناك معجزة أخرى كبيرة نراها ونلمسها ونلاحظها ولايمكننا أن ننكرها وهى " التغير الوجودى " الذى يُحدثه المسيح في روح الإنسان كم من إنسان لم يكن مسيحياً تغيرت حياته للأفضل بعد إيمانه به بالمسيح للأفضل ؟ إن هذه الخبرة الروحية التي تحول الروح الإنسانية من الشر إلى الخير ومن الكراهية إلى السلام ومن الآخذ إلى العطاء هي خبرة حقيقية تؤكد أن المسيح فعلاً قام ومازال إلى الآن يعمل و يمكنه تغيير قلب الإنسان ، فالأختبارات الروحية التي تحدث معنا ومع غيرنا من مختلف الأديان حين نلمس وجود المسيح كلها تتفق على أن المسيح حى ويُغير ومازال يصنع قلوباً جديدة