A Society Living in Fear is a Dying Society أسئلة وأجوبة عن ما يحدث في سوريا؟ ما شفناش م الجولاني حاجة وحشة! إسرائيل وتركيا: إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد ... القديم؟ الخوف والحياة احذروا الجولاني الــــ”كيوت”... التاريخ يعيد نفسه! ثقيلة هي ثياب الحملان! ... حلقة ١: مكالمة هاتفية!! نحنُ.. والفِكرُ الجمعي الأفقي وبدأت عملية ”السوط الجارف”‎ روح الروح!! كاتدرائية نوتردام تستعيد بريقها بعد 5 سنوات من الحريق للمرة الأولى.. بابا الفاتيكان يقود سيارة كهربائية بلا انبعاثات

مينا ماهر يكتب: رواية كلمتين في حب مصر (11)

مقدمة: كتبت هذه الرواية في عهد الرئيس محمد حسني مبارك وانتهيت منها قبل ثورة ٢٥ يناير بأسبوع! 

المذيع هادي ابو الخير يقدم برنامجه الإذاعي "كلمتين فى حب مصر" وتلقى مداخلة من الدكتور المهاجر رامز المصري مشجعاً للهجرة وراوياً له عن والدته أم دنيا الخادمة (والأرستقراطية الأصل) التي باعته هو وإخوته وهم أطفال، وتشتتوا في الأرض؛ وكيف كان قرار زيارته لمصر يتأثر بالأحداث السياسية التي تزامنت مع موعد زيارته! حيث كانت تنعكس هذه الأحداث سلبياً بشكل غير مباشر على أخوته المغتربين، من بينهم خليل المصري بالكويت، وعادل المصري الذي عاد من العراق لرؤية أمه بعد فراق دام سنوات…  

حلقة ١١:

تمنى عادل أن تستقبله امه بالقبلات والأحضان بعد مضي كل هذه السنين، ولكن كعادتها…لم تفعل، بل سألته بجفاء: 

- ايه اللي فكرك بي دلوقتي؟ 

من الغريب أن أم دنيا لم تسأل أياً من أولادها هذا السؤال من قبل حين كانوا يعودون لرؤيتها! ربما لان عادل هو الوحيد من ابناءها الذي تركها بكامل إرادته، فربما اشتهت أن تجعله يحس بالذنب تجاهها! فما كان على عادل إلا أن أجابها بحكمة وهدوء:

- يا امه أنا مش جاي النهاردة عشان اتعاتب!

- أومال جاي ليه بسلامتك؟

صمت لوهلة، ثم قال بنبرة منكسرة!

- السفير المصري في العراق أتقتل من كام اسبوع!

- يا الف نهار ابيض، و المطلوب إيه بقي؟...اوقف الشربات وأوزع قهوة سادة؟

- مش مطلوب حاجة..أنا بس بجاوبك على سؤالك!...

- و ايش دخل خبر قتل السفير، برجوعك؟! 

- أصل انا كنت في العراق!

- وماله…برضه ايش دخل قتل السفير في رجوعك؟! هم كانوا طردوا المصريين اللي هناك؟!

- من غير مايطردوا المصريين…يا امه لما رمز مصر يتقتل... يعني مصر كلها اتقتلت و ربنا وحده اللي يعلم ممكن يحصل ايه للمصريين اللي برة. 

- يعني حايحصل إيه اكتر ماللي بيحصل؟!...ولا انت خايف على روحك يا حبيب أمك...ماتخفش...إحنا ضهرنا ربنا يابن العبيطة ... خلاص خلصت الكلمتين اللي انت جاي تقولهم؟! يلا بقى اتكل من هنا عشان افضى لضيوفي...

انصرف عنها عادل حزينا لانه كان متعشماً في الزمن الغادر أن يمحو جراح الماضي، ولكنه كان مخطئاً، فذهب عنها دون حتى أن يخبرها بأنه قد تزوج وإن لها أحفاداً!

***

كان هادي ابو الخير شغوفاًً جدا لاستكمال الحكاية، فسأل رامز:

 - وخلاص كدة...؟

- اه...خلاص...بعدها بأسبوعين ام دنيا لاقت شغل تاني عند واحدة امريكانية تانية! واخويا عادل قدم على هجرة لكندا بعد ما طلع بوزه في مصر.

- وانت؟ انت منزلتش مصر؟...

- لا طبعا..كنسلت التذكرة و حجز شرم بعد انفجارات ٢٠٠٥ اللي حصلت دي...دا غير سدة النفس م اللى سمعته عن عادل!

لم يعجب هادي برد رامز، ربما لظنه أن الأسباب التي استعرضها لا تزال غير كافية! ولذلك فضل الاستماع الى مداخلة أخرى كي يغير الموضوع فقال:

- معانا اتصال تاني من مروة من امريكا....الو يا مروة.

تجيب مروة بحماسة وجرأة المصريات المعتادة: 

- ايوة يا هادي...أنا كنت عايزة أدي مثال سريع شفته هنا في امريكا في الاخبار...عن جار اتسجن عشان قتل كلب جاره...شوف قد إيه الناس دي بيقدروا حتى حياة الحيوان...

تأفأف هادي في سره، وكأن المداخلة لم تكن مهرباً كافياً من عبارة رامز السابقة، فاجاب بغيط ملحوظ: 

- بصي بقي...أهي دي بقى فرأيي زيادة...يعني إيه اتسجن عشان قتل كلب؟!...وهم يعني مابيشوفوش الاف الاطفال اللي بتتقتل في القدس كل يوم...

- معلش...دي سياسة... بص ليها من ناحية تانية... تفتكر مثلاً كانوا سكتوا لو كانوا أطفالهم هم اللي بيتقتلوا؟ بالتأكيد لأ…فلما سفير مصر بحاله يتقتل…كان المفروض…

قاطعها هادي على الفور:  

- عالعموم دي نقطة ممكن نختلف فيها مع بعض في حلقة تانية...شكرًا يا مروة...ونرجع لرامز...لو لسة معانا..

معذور هادي! عدم احترافه يجعله يفشل في تورية انحيازه لقضايا معينة بعض الأحيان، فرمقه المخرج بنظرة ثاقبة يأمره فيها بأن يلزم الحياد إن أمكن، في نفس الثانية التي أجابه فيها رامز قائلاً:

- اه معاك.

استعاد هادي سكونه فاسترسل في الحوار:

- دكتور رامز أنا كل اللي اقدر اقوله من اللي سمعته منك لغاية دلوقتي ان حظك وحش....كل ما تقرر تزور مصر يحصل حاجة..

فضحك رامز بسخرية وقال:

-  جايز!

- بتضحك ليه؟

- اصلك ماتعرفش اللي حصل في ٢٠٠٦!

- حصل إيه تاني في ٢٠٠٦؟

- ربنا يجازيهم بقى...

- مين دول...؟ وعملوا إيه؟

- ٢٠٠٦ هي اول سنة اشوف فيها امي من ساعة ما هاجرت!...

- سافرت مصر؟

- لأ!!

***

تكتظ المقاهي الشعبية بالناس في مدينة القاهرة خاصة في مواسم مباريات كرة القدم، فنرى أعماراً شتى تتراوح ما بين الشباب المراهق و الكُهول المتقاعدين، مجتمعين معا لمشاهدة البث المباشر للمباريات؛ و الغريب ان المقاهي في أغلب الأحيان تصنف عرفياً حسب أغلبية المشجعين من الزبائن (حفاظاً على الأمن)، فهذا مقهى اهلاوي وذاك زمالكاوي...الخ. ولكن مع تدهور مهارات واخلاقيات اللعب قد تقهقر عدد مشجعي النوادي تدريجيا ليصبح ٨٠٪ من الشعب المصري -ان لم يكن كله- يشجع النادي الأهلي! أما الأقلية المتبقية فقد تطوعت مشكورة لتشجيع الأندية الأخرى، لحفظ ماء الوجه تارة ولخلق القليل من الإثارة تحاشياً الملل تارة أخرى.

 لكن لا تُرى هذه الصورة الساخرة أعلاه عندما يلعب منتخب مصر ككل في كأس العالم أو الدورات الافريقية، فالكل وقتها يضحك ويعبس بروح واحدة؛ والشوارع تكون غير مزدحمة بشكل نسبي…وخاصة عندما تكون مصر هي البلد المستضيف. هكذا كان كاس افريقيا لعام ٢٠٠٦، ساخنا مليئا بالتوتر اللذيذ والمتعة؛ وكذا الشعب المصري وقتها قد هُيء نفسياً لاستقبال ضيوفه من فرق أفريقيا واستضافتهم لمدة ٢٠ يومٍ والجدير بالذكر أن مصريين الخارج تلحقهم نفس حالة الفرح والقلق المشحون بالحيوية الوطنية في المباريات العالمية، فيجتمعون سوياً في منزل ما ويتابعون المباريات وهم يشربون المرطبات ويأكلون المقبلات السريعة؛ وإذا بمصر تفوز بكأس أفريقيا للمرة الخامسة في ١٠ فبراير ٢٠٠٦، وكرمت الدولة المنتخب المصري بثلاثة ملايين جنيه. فارتسمت ابتسامة عريضة على الوجوه، وتداولت التعليقات المصرية المضحكة بين الناس كالعادة. فرحة حقيقية قد ملأت كل شوارع. وعلى الرغم من روعة و وقع الحدث، الا ان الاحداث اليومية الأخرى لا تتوقف؛ فلابد من لحظة ما يتسلل فيها القدر إلى أذهاننا -بشكل أو بآخر- ليصدمنا بواقعنا و يخرجنا من بهجة المناخ السائد؛ و هذه هي الحياة مع الأسف! 

كانت ام دنيا تطهي في مطبخ سيدتها الأمريكية الجديدة، حين تلقت مكالمة تليفونية على محمولها في منتصف شهر فبراير، وكان هذا الحوار:

- الو...

- عواطف السكري؟

- أيوة أنا عواطف ...مين معايا؟

- انت والدة خليل عبده المصري؟

- ااايوة...خير؟!

- البقاء لله! جثته عندنا ياريت تيجي تتعرفي عليها! 

لأول مرة تزرف ام دنيا الدمع لا إرادياً، ولكنها قررت ان تتماسك؛ فالموت يأتي من حيث لا ندري ولا نعلم، وهو علينا حق! الا ان الموت غدى طرفاً حياً في المجتمع المصري في العقود الأخيرة! فالناس تموت كل يومٍ لأسباب مختلفة غير طبيعية: منها الجوع وتسمم الأطعمة، وحوادث السيارات...الخ وفي النهاية الموت واحد!  لكن التآلف مع والاعتياد على مفهوم الموت لأتفه الأسباب وبشكل متكرر وشائع يسبب تبلد المشاعر لدى الناس تجاه حياة الآخر!

لم يعد خليل عبده المصري على ما يرام بعد الحادثة التي تعرض لها في عام ٢٠٠٣ في دولة الكويت، فصار يعيش في عدم أمان مزمن؛ ومع خلو الطموح والهدف يصير الإنسان أكثر عرضة للإحباط والمرض، فنرى خليل يطرد من عمله في البقالة في أوائل عام ٢٠٠٤، وإذ به بدأ يتخبط من عمل الى اخر ومن مسكن لمسكن ومن صديق لآخر! قد يكون الاعتداء الوحشي الذي تعرض له في ٢٠٠٣، مع عدم توفر يد المعونة المطلوبة، بالإضافة الى شخصيته الضعيفة سبباً في تدهور حالته الاجتماعية، ولكن كل ما تقدم لا يمنع من أنه كان حقاً جريحاً، وجرحه، للأسف، عميق ومهمل. استمر الحال بخليل على هذا المنوال إلى أن قرر أخيرا أن يضع حدا له في أواخر يناير ٢٠٠٦!

لا، لم ينتحر خليل، بل قُتل! فبعد أن أغلقت جميع الأبواب في وجهه، قرر ان يعود لموطنه، آملاً أن يجد الراحة والكرامة اللتين فقدهما لسنوات. اتفق يوما مع أحد قوافل الرحلات البرية الخارجة من الكويت الى منطقة تبوك بالسعودية. ومن هناك استقل عبّارة السلام المصرية، وهي عبّارة إيطالية الأصل تم تصنيعها عام ١٩٧٠ وخضعت لعدة تطويرات بعدها إلى أن تم شرائها عام ١٩٩٨ بواسطة شركة السلام وأطلق عليها اسم عبارة السلام ٩٨. ولسبب مجهول -أو لم يتم الإجهار به- غرقت السفينة في مياه البحر الأحمر وراح ضحاياها من الغرقى حوالي ١٠٠٠ شخص من بينهم خليل في ٢ فبراير ٢٠٠٦. 

ورغم إشارات الإنقاذ التي أرسلتها السفينة قبل غرقها -والتي التقطتها مراكز إنقاذ أجنبية قريبة وبالتبعية عرضت المساعدة على الجهات المصرية المسئولة- إلا أنه قد انتهى بها الحال في قاع البحر! فلم تستقبل الأجهزة المصرية إشارات الإغاثة من عبارة السلام، ولكنها استقبلت فقط عروض المساعدة الأجنبية بعد ست ساعات من إرسالهم، حينما كان ركاب السفينة مأكلاً لأسماك القرش في الاعماق! 

سخط رامز سخطاً رهيباً على الوضع الراهن حينما أبلغته دنيا أخته بالخبر، فحزن  واعتصم في بيته، بل و ندم على عدم تدخله في الوقت المناسب قبل فوات الأوان!

كان رامز قد استطاع التواصل مع خليل عن طريق الهاتف بعد تعرضه للضرب في ٢٠٠٣. لم يلتقيا وجها لوجه ابداً! و رغم  ذلك نشأت بينهما صداقة، ربما لم تكن أن تنشأ إن قدر لهما أن يكبرا سوياً. فكان رامز دائم السؤال عليه، وكان أيضاً يعوله ماليا كل شهر. حاول رامز مراراً أن يرفع من معنوياته المهدمة، و كانت ترتفع بالفعل وقتياً، ثم تعاود الهبوط به من جديد إلى أسافل الأرض. لم يكن خليل ناضجاً بشكل كافي، فكان فريسة للهوان و الذل. كان رامز بالنسبة له الملجأ الوحيد، و لكن كان بُعد المسافات بين الأخوين يمثل عائقا أساسيا في تحسن حالة خليل، فسنده الوحيد على بعد آلاف الأميال منه. 

جلس رامز في شرفة منزله يشاهد نشرة اخبار الثامنة مساءً وهو في غاية الحزن و الغضب معاً، وإذ به صدفة يرى والدته مستضافة في أحد البرامج و هي تشدو بتعويضات الحكومة المالية و إنجازاتها في عمليات البحث عن ضحايا المركب؛ فقد عوضت الدولة عائلات ضحايا الغرقى بـ ٣٠٠٠٠ جنيه، فما كان على رامز إلا أن قذف تلفازه تلقائياً بمطفأة السجائر التي كانت أمامه، و صرخ:

- مش ممكن! دي مايتسكتش عليها دي...

وإذ به يمسك بسماعة الهاتف و يطلب رقم ام دنيا. 

يتبع في الحلقة التالية من العدد القادم