خواطر مسافر إلى النور ( ٢٠٣ )
التجسد الإلهي... ولماذا يستغربه البعض وليس الله؟
الله سبحانه ليس هو علِّة الوجود فقط، بل هو علِّة الحياة في هذا الوجود .
هذا يشرحه مقدمة الإصحاح الأول في أنجيل يوحنا حيث يقدم لنا شخص الله أنه
” الله الكائن “و”الله الحي“ في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله.هذا كان في البدء عند الله” = الله هو الكينونة ذاتها .
” كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان “. = الله هو مصدر كينونة كل الكائنات.
” فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس “= هو ” الله الحي“ .
فإن أهم إعلانات الله لنا عن ذاته :
أنه الوجود والحياة وأنه يعطينا الوجود والحياة .ثم يضيف إنجيل يوحنا في إعلانه عن إيجابية وجود الله وحياته أنها لا تقتصر فقط علي نعمة الخلق ، التي بها يعطينا مِن وجوده و حياته، بل أن الله لا يمكن أن يقف من خليقته موقفاً سلبياً، لذلك يقول أنجيل يوحنا :”والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه“
الله يعلن تدخله في الكون بوجوده وحياته ، ليصلحه ويعلن سيادته بأنه ضابط الكل .فالقوة الإلهية هي مظهر لوجود الله وحياته. والاعتراف بالقوة الإلهية هو اعتراف بوجود الله وحياته .
لذلك أمتلأ الكتاب المقدس بالتعبير عن وجود الله الحي بتشبيه الله بالصفات الإنسانية (النظر الشم. له يدين وقدمين . يفتح ويغلق . يتكلم ويفرح ..إلخ) . ولكن تلك التعبيرات ليست تحديداً لطبيعة الله الحي .
بل علينا أن نري في كل هذه الأوصاف ديناميكية الحياة التي لله الحي، وليس تحوّل الطبيعة الإلهية إلي مستوي الطبيعة الإنسانية .
إن نزول المن والسلوي لبني إسرائيل في البرية ليأكلوا، يمكن أن يدخل ضمن استعلان الله لذاته أنه ”الله الحي“ من خلال تدخله بقدرته في استمرار هذه الآية الخارقة علي مدي سنوات التيه في البرية التي أعطت الوجود والحياة لبني إسرائيل في الصحراء أربعين سنة .
والتجسد الإلهي ليس ببعيد عن إعلان الله لذاته أنه ”الله الحي الموجود “، ليس فقط بآيات خارقة في الطبيعة، ولكن الإعلان كان هذه المرة في صميم طبيعة الإنسان بأن ”الكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا“ (يوحنا ١).
فكل التشبيهات التي أعلن الله عن ذاته بها في تاريخه الطويل مع الأنسان ربما جدير بنا أن نرى استمرارها متجسدة في يسوع المسيح ”الله الظاهر في الجسد“ .
ومرة أخري نؤكد أن التجسد الإلهي ليس تحديداً لطبيعة الله الحي، أو أن الطبيعة الإلهية تحولت أو انحصرت في الطبيعة الإنسانية. فالكتاب يؤكد أن ”ليس أحد صعد إلي السماء إلا الذي نزل من السماء أبن الإنسان (ابن الله) الذي هو في السماء“ (يوحنا ١٣:٣) .
ولكن التجسد الإلهي هو استمرار لتأكيد الإعلان عن تدخل ”الله الحي“ في الكون ومصير خليقته وإعلان سيادته .
وهكذا ”كما كان هكذا يكون“ في كل عصر وآوان يُظهِر الله أنه ”الضابط الكل/ البانتوكراتور ، وذلك من خلال عمله في الوجود سواء في عناصر الطبيعة أو المخلوقات لكي تؤدي عملاً معيناً أو تكف عن أداء وظيفة معينة وذلك تحقيقاً لتدبير الله السرمدي .
وبناء علي ذلك رأينا تدخل الله بالتجسد الإلهي لينهي موت الأنسان الخاطئ ويبدد ظلمته، ثم يجدد خليقة الأنسان بأن يسكب فيها حياته :
"الشعب الجالس في ظلمة أبصر نورا عظيما، والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور».“(متي ١٦:٤).
”فإن الحياة أُظهِرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرت لنا.“ (يوحنا الأولي ٢:١)
فالمسيح - له المجد - بتجسده وضع نهاية لسلطان موت الخطية الذي لأبليس، وأسس عهداً جديداً للإنسان ليحيا إلي الأبد في المسيح يسوع الذي ”يفتح ولا أحد يُغلق، ويُغلق ولا أحد يفتح“ (سفر الرؤيا) .
ونختم مقالنا عن ”الله الحي“ ووجوده في سر الأفخارستيا الذي هو امتداد "شجرة الحياة" التي وضعها الله في وسط الجنة لكي يأكل منها الأنسان فيحيا إلى الأبد.
فالله أودع في خبزٍ وخمرٍ سر وجوده وحياته وقوته وحبه التي تجلَّي بها للإنسان منذ خلقته أي منذ أن غرس له شجرة الحياة في وسط الجنة لنفس الغرض .
هنا المسيح يعطي ذاته في الأفخارستيا ”جسدي مأكل حق ومشرب حق“ (يوحنا٥٥:٦).
وهو ليس تحديداً لطبيعة الله الحي ، أو أن الطبيعة الإلهية تحولت أو انحصرت في المادة من خبز وخمر أو في الطبيعة الإنسانية، بل هو استمرار لإعلان الله الحي عن وجوده وحياته وقوته وحبه .
فإن الله لا يكُّف عن إعلان وجوده وحياته وعمله من أجل الأنسان لكي يتحد به دون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير بالأكل من شجرة الحياة الأفخارستية فيدخل إلي مجال حياة الله الخالدة .
لذلك أقول :كما أن "شجرة الحياة" كانت سبب وهدف خلق الله للإنسان لكي يأكل منها ويحيا إلي الأبد ”من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله»،(سفر الرؤيا ٧:٢)
فجسد الرب ودمه في الإفخارستيا سبب وهدف التجسد الإلهي بميلاد المسيح في بيت لحم لكي نأكل منه ونتحد به ونحيا معه إلى الأبد ”فمن يأكلني يحيا بي“ (يوحنا ٥٧:٦).... والسُبح لله