من الأرقى؟ (2)
تحدثنا في المقال السابق عن الإنسان، هذا الكائن الذي ففيه تتحد الخلائق المنظورة وغير المنظورة، الخلائق المادية وغير المادية. فهو صورة الله ومثاله. كما أن خلق الإنسان كان نتيجة حوار ثالوثي تم بين الأقانيم. بنعمة الرب، سنكمل في هذا المقال ما هي هذه الصورة الإلهية وما هو المثال.
الله هو الحب الكامل، وقد خلق الإنسان على صورة الله في الحب. والحب في معناه الحقيقي هو خروج الإنسان من ذاته للآخر. لذلك لكي تكتمل صورة الحب في الإنسان، خلق الله حواء. فقد قال الرب الإله: "ليس جيدا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معينا نظيرا " (تكوين ٢: ١٨). فوجود حواء كان لاكتمال صورة الحب حينما يخرج آدم من ذاته فيقدم الحب لحواء.
أيضا بعض الآباء فهموا صورة الله في الملكات العليا لديه كالفكر والعقل، والبعض الآخر وجدوا صورة الله في الحرية الممنوحة له، في ملكة الاختيار الحر الداخلية. أما القديس يوحنا ذهبي الفم فيرى أن صورة الله فقط من حيث السلطة وليس تبعاً لجوهره. يقول الذهبي الفم: "الكتاب المقدس من بعد أن يذكر خلق الإنسان على (صورتنا كمثالنا) يتابع "ليتسلّط على….". يُشدد الذهبي الفم، لم يقل (صورة الجوهر) بل (صورة السلطة) فقط.
من هنا يحصر الذهبي الفم صورة الله في الإنسان بالسلطة فقط مُستبعداً كل ما يمكن أن يفهم من الصورة أي شكل أو جوهر الله. ويتابع الذهبي الفم "إن فعل السلطة هذا يظهر في عقل الإنسان، في حرية الرأي والاختيار وفي المشيئة الحرة".
ولكن الذهبي الفم لا يقصر الصورة على النفس فقط بل تظهر أيضاً في الجسم بكامله دون أن يترتب على ذلك أي إدراك بهيئة بشرية لله وذلك لأن الإنسان في تركيبه يشكل وحدة نفسية جسدانية، وفي أماكن أخرى كثيرة تُنسب الصورة عنده الي الإنسان الكامل.
عند الذهبي الفم صورة الله في الإنسان التي تبدو في السلطة لا تُفهم فقط من جهة واحدة كسيطرة خارجية على العالم فقط وجهها الأهم هو في سيطرة الإنسان على نفسه وفي السلطة الداخلية التي كان يملكها آدم قبل السقوط. وبقدر ما يستعيد الإنسان هذه السلطة من بعد السقوط بقدر ما يقتنيها أيضاً خارجياً. فعلي سبيل المثال لا الحصر، هذا ما حدث للقديسين مثل نوح، دانيال وبولس الرسول الذين لم تؤذهم الحيوانات المفترسة. إذا فصورة الله في السلطة تظهر في عقل الإنسان، كما تظهر سلطته أيضا في سيطرته على نفسه.
إن كانت هذه الصورة الإلهية، إذا ما هو المثال؟
المثال الكامل هو شخص الرب يسوع المسيح وقد حقق المسيح هذا المثال من خلال التجسد. نعم التجسد هو قبلة الله للبشرية، هو أتحاد الله بالإنسان لكي يأخذ الإنسان ما لله. فيقول القديس أثناسيوس، أن الكلمة تجسد وولد من إمرأة لكي يحول الإنسانية الي حياة سمائية جديدة.
إن آدم لم يتمم الدعوة ولم يبلغ الاتحاد بالله وصار مُستعبداً من بعد السقوط للقوى الخارجية ومنذ سقوطه حتى يوم العنصرة (حلول الروح القدس) بقيت القوة الإلهية غريبة عن الطبيعة البشرية. ولكن خطيئة آدم لم تغيِّر المخطط الإلهي ولم تلغِ تصميم الله، إن دعوة آدم الأول قد حققها المسيح آدم الثاني بالتجسد. "إذ قد صار الله إنسانا ليصير الإنسان إلهاً"
(مقال ٥٤ من تجسد الكلمة لأثناسيوس)
الإنسان أيقونة الله، وهو مدعو أن يكون بالنعمة ما هو للمسيح بالطبيعة. هذه الدعوة كانت له منذ البدء، لمَّا أعطي الإمكانية أي الصورة الإلهية للانطلاق نحو تحقيق المثال. وهذا يتطلب ديناميكية نحو الله، وتآزر للنعمة مع الأعمال. التجسد الإلهي قد أعاد لنا الإمكانية لتحقيق المثال. بعد أن أجَّل الله مخططه الإلهي بسبب السقوط دون أن يلغيه. وذلك في شخص آدم الجديد المسيح. لأنه "كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطأة هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبراراً" (رومية5: 19)
في سرّ المعمودية يتم "تجديد إمكانية تحقيق المثال". المعمودية تُعطى للإنسان لتجدده وتؤهله إلى الشركة في جسد ودم المسيح. المعمودية تهب الإنسان نقاوة الصورة والمثال بالمسيح مبدئياً. أما سر الشكر فيعمل على امتداد المثال والاتحاد الكامل بالمسيح.
عزيزي القارئ، أرأيت كم أنت كائنا راقيا جدا ومحيرا للخليقة كلها!! ولكني عفوا عزيزي، فالمحير الحقيقي هو الله الذي غمر الإنسان بحبه وأعطاه صورته ومثاله، فمن فرط صلاح وحب الله غير المشروط كون الإنسان إذ لم يكن.