هراطقة للبيع
ان ما تمر به الكنيسة هذه الأيام يدعو إلى الشفقة، صراعات هنا وهناك، اختلافات تتحول الى خلافات وتتطور إلى صراعات فتنتهي بهرطقات الآخر. حال مؤسف جدا خصوصا ان أصحاب العلم والشهادات العليا والتخصصات هم الضحايا. لماذا كل من يدرس اللاهوت او يبحث فيه يكون معرضا لكي يحصل على لقب هرطوقي؟ لماذا كل من لا يركب نفس قطار التعليم السائد ويسبح مع التيار يهان ويرفض وتتم هرطقته؟
سأحاول الإجابة على هذه الأسئلة ملقيا الضوء على الواقع الكنسي وما يحدث فيه.
أولا: هناك خلفية ثقافية وموروث حضاري حيث اننا شعب يميل دائما الي الشخصانية. فثقافة الأشخاص حلت محل ثقافة المؤسسات أو حتى ثقافة النظام. فتجد أن هناك عصورا قد انتسبت للأشخاص او القادة الروحيين الذين عاشوا فيها، لا سيما لو قام هؤلاء القادة بعمل بطولي أو حتى كانوا يتمتعون بكاريزمية طاغية، مما يؤدي إلى الانجذاب العاطفي لهم من قبل الشعب.
ثانيا: اتباع بعض القادة الروحين نظرية: "الرجل العظيم" La théorie du grand homme (Labelle, 2006).
تعتبر نظرية الرجل العظيم هي أحد أهم نظريات القيادة، والتي تتبنى المفهوم القائل بأن القادة يولدون ببعض السمات المميزة عن غيرهم من الأفراد والتي تؤهلهم لكي يكونوا قادة فعالين، وتشير النظرية إلى أنه من الصعب اكتساب تلك السمات فهي منحة ربانية يولد بها الفرد. وقد نشأت النظرية على يد الفيلسوف "توماس كارليل" في القرن التاسع عشر الميلادي. وقد حظيت نظرية الرجل العظيم بمكانة هامة بين نظريات القيادة، وقد تم تطبيقها في العديد من الأبحاث والدراسات في مجالات مختلفة مثل المجالات الاجتماعية والسياسية والعسكرية.
وعلى الرغم من الانتقادات التي واجهت نظرية الرجل العظيم إلى أنها تعتبر أبرز النظريات القيادية وأشهرها. ويعتمد تطبيق نظرية الرجل العظيم بشكل أساسي على الفرضية القائلة بأن القادة هم أفراد غير عاديون ويمتلكون عدداً من السمات الفريدة والتي تؤهلهم للقيادة وهي سمات فطرية لا يمكن اكتسابها.
وقد أصبحت نظرية الرجل العظيم في القيادة الشعبية خلال القرن التاسع عشر. حيث ساعدت الأساطير التي تقف وراء بعض أشهر زعماء العالم مثل أبراهام لنكولن، يوليوس قيصر، المهاتما غاندي والاسكندر الأكبر على دعم نظرية الرجل العظيم والمساهمة في فكرة أن الزعماء والقادة الكبار ولدوا ولم يصنعوا. للآسف تعتبر هذه النظرية إحدى نظريات القيادة والتي واجهت الكثير من الانتقادات بل وأصبحت إحدى النظريات القديمة التي نادرا ما يتم الاستعانة بها في المؤسسات الكبري. فالقائد لا يولد قائدا كما يعتقد البعض. ولا يملك امكانيات فذة تجعله مختلفا عن الآخرين، بل إن القيادة فنا يتدرب عليه الإنسان.
فإذا نظرنا إلى الكنيسة، نجد انه للآسف يعتقد اغلب الشعب في هذه النظرية ويميل أغلب القادة إلى تقمص شخصية هذا الرجل الروحي العظيم فينجرف اغلب الشعب وراء هذا الرجل العظيم دون بحث او تعقل. فيتفشي فيروس الافتتان الكامل سريعا.
لقد سار اغلب الناس وراء رجال عظماء بحسب هذة النظرية السابقة ولم يتعلموا إلا منهم. كانوا يستقون التعاليم اللاهوتية منهم واعتقدوا إن هولاء يمتلكون الحق المطلق. لقد سميت عصور بأسمائهم بل ولو نطقوا هؤلاء بخلاف بأي شيء سيسمعون لهم، لأنهم بالنسبة لكثيرين مصدر التعليم الوحيد.
ثالثا: غزو الفكر والأدب الرهباني للكنيسة. للآسف لم أجد تعبيرا أفضل من تعبير "غزو"! فالفكر الرهباني الذي لا يناسب اغلب الشعب أصبح هو الفكر السائد الآن. مما رفع شأن الرهبان والأساقفة والبطاركة جدا وأصبحوا عند بعض العقول ملائكة لا تخطيء. فهؤلاء الذين اختاروا النصيب الصالح فكيف يخطئون. وإن أخطأوا وأصبح هذا جليا واضحا كوضوح شمس الظهيرة في شهور الصيف، فنجد الأعذار واتهام الظروف أو اللجوء إلى الشكوى من الظلم هو سيد الموقف.
إن الأدب الرهباني لا يناسب الا الرهبان في الاديرة فقط. وقصص وسير هؤلاء الرهبان لا يجب ان تحكي للشباب او الاطفال اوحتي البالغين. انه وأد لعقول الناس وتقييد للحرية الفكرية التي توجه العقول بطريقة غير مباشرة الي تقديس طريقا واحدا ومجموعة واحدة من الناس، وكأنه الطريق الوحيد للخلاص. ما فائدة الاقتداء التام ببعض الكتب الرهبانية النسكية والتي تقع في ايدي الشباب وذلك دون بحث او تفكير نقدي لهذه الكتب؟ ما فائدة سماع أو قراءة سير رهبان البراري وفضائلهم ونسكهم الشديد جدا وزهدهم عن الحياة، وذلك حينما يبدأ شبابا في مقتبل العمر طريقهم؟ سيصاب اغلب هؤلاء الشباب بالإحباط وسيقتنعون بأن الحياة باطلة ولا داعي لتحقيق الأهداف التي وضعوها لحياتهم. والنتيجة المحزنة هي رؤية هؤلاء الرهبان والأساقفة كنجوم تتلألأ داخل عقولهم، فهي الفئة الوحيدة التي استطاعت ان تحيا هذه الحياة الشاقة، وبالتالي لايجد هؤلاء الضحايا إلا الأفتتان الكامل بهم واعتبارهم امثولات غير قابلة للخطأ. فكل ما يقولونه او يحكمون فيه هو الحق بعينه.
والجدير بالذكر هنا هو دور وسائل الإعلام في إعلاء نبرة قداسة هؤلاء الرهبان او القديسين بصفة عامة. فتحولت أغلب الأفلام الدينية الي تقديم صورة السوبرمان الذي لا يخطئ، وتفنن البعض في اظهار سير القديسين ومعالجتهم دراميا بطريقة تدعو في بعض الأ وقات الي السخرية، حيث يقدمون صورة مثالية جدا عن قديس أو قديسة الفيلم، وهذه الصورة تبعد كثيرا عن الحقيقة. عجبا فقد قدم الكتاب المقدس أخطاء القديسين وأعلنها صراحة إن الكل أخطأ واحتاج الجميع مجد الله. فتخيل معي عزيزي القارئ، ما عسى أن تكون النتيجة إلا إفتتانا كاملا بهؤلاء القديسين والقديسات.
عزيزي القارئ، لقد نال الكثيرون لقب هراطقة في هذا الزمان دون وجه حق او دون حتى معرفة ما يقولون. والعجيب انه حينما اتهم الأب متي المسكين بالهرطقة وحوربت أفكاره وكتبه كان العالم ينشر كتبه ويعلمها لشعبه ويستقي من تعاليمه، وسيأتي اليوم الذي يرى فيه الشعب القبطي التاريخ الكنسي وهو ينحني احتراما وتقديرا لهذا الاب العظيم وغيره من الآباء والعلمانيين الدارسين والمثقفين واللاهوتيين الذين يفنون عمرهم من أجل تعليم وتثقيف الشعب ولكنهم للآسف لا يجدون إلا اتهامهم بالهرطقة وسداد الأذن عنهم والأنصياع لأولئك الذين يبعدون عن هؤلاء الدارسين سنينا ضوئية.
المراجع
- شبكة المعلومات العربية (مكتبتك)
- Les quatre générations du leadership ( François Labelle).