مجد الإنسان (٢)
يتوسع علم اللاهوت في العلاقة بين الله والإنسان. وينطلق اللاهوت في تفكيره من أن الله خلق الإنسان ولم يتركه لشأنه، بل كلمه وكشف له ذاته وسعي الله للإنسان لكي يقيم علاقة معه. فالله دائما هو من يبدأ بالمبادرة وليس الإنسان. على الرغم من إختلاف مفهوم الوحي في الأديان، إلا انها تُجمع كلها على أن الله، بشكل أو بآخر، قد كلم الإنسان وأبلغ إليه إرادته.
ففي المسيحية يشرحها معلمنا بولس الرسول في رسالته الي العبرانيين: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في إبنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضا عمل العالمين." (عب ١:١). فمن خلال هذا الإعلان؛ يمكننا تكوين صورة لله ولعلاقته بالإنسان. وهذه الصورة هي صورة الله الأب. فالله الخالق لنا هو أب لنا. يسعي لنا ويبحث عن علاقة معنا، نحن أولاده. الله هو أب بالخلق لجميع الناس، ليس فقط المسيحين اللذين يؤمنون به بل هو أب لكل البشرية. الله أب ليسوع المسيح ولكنها أبوة من نوع خاص. فنحن أولاد لله الآب وتختلف بنوتنا له عن بنوة يسوع المسيح إبنه الوحيد الجنس. نجد في العهد القديم عدة نصوص تدعو الله أبا لكونه خالق لنا: "يارب أنت أبونا، نحن الطين وأنت جابلنا، ونحن عمل يديك". (أش: ٦٤ -٧).
لقد رفض ماركس وجود الله الخالق لأنه اعتبر أن مثل هذا الوجود يُنقص من قيمة الإنسان. ولكن ماركس لم يفهم معنى الخلق الصحيح، وما رفضه لله الخالق إلا رفض لصورة خاطئة عن الله الخالق. فبالخلق يعطي الله الإنسان الوجود، إلا أن عطاءه هذا ليس عطاء سيّد لعبد بل عطاء أب لإبنه وحبيب لحبيبه. وأعظم عطاء أعطاه الله للإنسان هو إعطاء هذا الإنسان حق بل امتياز التعامل معه. فمنذ اللحظة الأولي ويعلن الكتاب المقدس هذا الإمتياز حين يعلن "في البدء خلق الله السموات والأرض". (تك ١ :١). فكلمة الله هنا في اللغه العبرية جاءت"الوهيم"، وهي تأتي بصيغه الجمع، فقد اشترك الثالوث في هذا العمل. اما كيف تم هذا الخلق، فقد خلق الآب الإنسان بالابن، خلقه بكلمته، أي بابنه يسوع المسيح. والعجيب أن كلمة خلق هنا جاءت بصيغه المفرد في أصلها العبري!!
قال الوهيم ليكن نور (تك ١)، إن يسوع المسيح هو النور الحقيقي الذي يضيء في حياة الإنسان (يو ١). لقد خلق الإنسان لكي يستمتع ببنوة الآب ويحيا في نور يسوع المسيح إبن الآب، الذي أعلن لنا عن أبيه وعرفنا من هو الآب. وهذا الإنسان يتقدس بالروح القدس ويمتلئ منه لكي تظهر حياة المسيح فيه، حتى يصير الإنسان هو يسوع المسيح الظاهر فيه.
"ان الله محبة"، والخلق هو أول أعماله التي بها أظهر محبته. يبقى أن يفتح الإنسان قلبه لتلك المحبة، لتكون حياته كلها جواباً على محبته له. فهكذا نحن نمتليء من ملء محبه الله، ونخلق في الكون أعمال محبة.
إن عظمة المسيحية لا تقوم أولا على ما يفعله المسيحيون، بل على ما يفعله الله في المسيح، وفي الكون وفي الإنسان. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "إذا أردنا أن نعرف عظمة الإنسان، فلا ننظر إلى عروش الملوك، ولا إلى قصور العظماء، بل نرفع أبصارنا إلى عرش الله، حيث نري إبن الإنسان جالساً إلي يمين الله الأب". فعظمة الإنسان ليست بما يصنع ولكن بما صنع من أجله. فيا لمجدك أيها الإنسان!