خواطر مسافر إلى النور (٢٢٢)
بين منهج الروحانية المسيحية وبين الصوم في المسيحية
عجيبةٌ حقاً هي صلوات كنيستنا لمفتوح العينين !! نصلي في ختام صلوات ساعات النهار (كتاب صلوات الأجبية القبطية) :
أحطنا يارب بملائكتك القديسين لكي نكون بمعسكرهم محفوظين ومُرشَدين، لنصل إلى اتحاد الإيمان (معهم) وإلى معرفة مجدك غير المحسوس وغير المحدود إلى الأبد، آمين"
هنا نصلي طالبين أن يكون لنا أيمان الملائكة القديسين وبالتالي نعاين مجد الرب مثلهم. ولأن - سبحانه - "غير المحسوس وغير المحدود“، لذلك نحتاج إيمان كإيمان الملائكة القديسين.
وبينما "الكل يطلب آية" ليؤمن، فإذ بالذين دخلوا "سر الكنيسة" الذي هو " سر المسيح" لا يطلبون- كالباقين- ما هو مرئ أو محسوس بمحدودية قياساتهم. بل أن يعاينوا الغير المحسوس، لأنه الغير محدود الذي هو مجد شخص الله ذاته.
لقد أشار الرب يسوع المسيح له - المجد - إلى منهج الله في إعلان ذاته أنه سر في قلب كل واحد منا علي حِدة … هو ”سر الله“ وبالتالي هو ”سر الكنيسة“. وربما من أجمل ما شرح به الرب هذا المنهج هو مثل الخمير والعجين: "يشبه ملكوت السموات خميرة أخذتها أمرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتي اختمر الجميع“ (لوقا ١٣). فأن يملك الله قلبك هو نعمة تأخذها منه مثلما أخذت تلك المرأة الخميرة. والأخذ في المسيحية لا يتطلب قدرات خاصة من الإنسان إلا أن يفتح قلبه لدقات المسيح الواقف يقرع باب كل قلب ”هأنذا واقف علي الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب. أدخل إليه وأتعشي معه وهو معي“ (رؤ 3: 20). إن عمل المسيح في القلب سرٌ إلهي خفي ومستمر وقد أشار إليه الرب في حديثه إلي نيقوديموس ”الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، ولكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلي أين تذهب هكذا كلُ مَن وُلِدَ من الروح “ (يو 3: 8).
لذلك، فبينما نجد العالم يجتهد ليُثبت وجود الله بأدواته البشرية يفشل ثم يعاود البحث، ليس لأن الله مختفي أو غير موجود. فهو الذي ظهر في الجسد" وبالإجماع عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرِزَ به بين الأمم، أُومِن به في العالم، رُفِعَ في المجد." (1 تي 3: 16)، ولكن لأن الله هو الذي يُعلِن ذاته للإنسان وليس أن الإنسان هو الذي يكتشف الله ”ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم، وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر، ويدوم ثمركم، لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي.“ (يو 15: 16).
إن الله هو مَلِك الملوك ورب الأرباب. بذاته سبحانه وليس بأحد غيره. لذلك عندما حاول اليهود أن يختطفوه ويجعلوه ملكاً هرب من وسطهم ”وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا، انصرف أيضا إلى الجبل وحده." (يو 6: 15). لم يكن هروباً بالمعنى المفهوم بل مثلما في إنجيل يوحنا 8: 59 ”أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازا في وسطهم ومضى هكذا“. إذ مستحيل أن من يتهافتون لينصّبوه ملكاً يختفي عن أنظارهم. الحقيقة أنهم لم يروه لاختلاف الرؤية. فهو الَملِك الذي يمنح المُلك لأنه مصدره. فنراه بعد القيامة يُظِهر ذاته لتلاميذه ”بعد هذا أظهر أيضا يسوع نفسه للتلاميذ على بحر طبرية. ظهر هكذا“ إنجيل يوحنا 21: 1.
الرب قال ”بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً»"(يو 15: 5). حتي الإيمان به هو نعمته ”وُهِب لكم أن تؤمنوا“( في٢٩:١).
لذلك فإن منهج المسيحية ألا تنتظر غير الله لتتقابل مع الله. وسوف يأتيك ولا يتأخر. ولكن كصوت هادئ وديع يميزه القلب وليس بالضرورة في عاصفة معجزات وقوي أحداث باهرة. بل كما الخميرة في الدقيق كذلك هو. فالاعتماد على غير ذات الله لإثبات ذاته ينقض الحجة أنه الله. لذلك كان إعلان الله لذاته في العهد القديم أنه قال لموسى عندما سأل الله عن أسمه سبحانه "فقال الله لموسى: «أهيه الذي أهيه» (أكون الذي أكون). وقال: «هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم»." (خر 3: 14).". وهو نفس الاسم الذي استخدمه المسيح ليشير إلى ذاته ”أنا هو (أنا أكون/ أنا الكينونة)“. إن إعلان الله ذاته للإنسان لا يعتمد/ لا يحتاج إلا ذات الله. فإن الله أثباته هو في ذاته "أنا هو".
وربما يدخل هذا ضمن أسباب سر إخلاء الله لمجده في ظهوره بيننا بالتجسد.
إن هدف الله هو قلبك لا انبهارك ” يا ابني أعطني قلبك“( أم ٢٣). فعمل الله بداخلك وليس بانبهارك الخارجي. بتحريك الله لكيانك الداخلي لتستجيب له، ويعاود روح الله زياراته ليحرك قلبك. أما المؤثرات الخارجية فيجيدها الشيطان "ولا عجب. لأن الشيطان نفسه يغيِّر شكله إلى شبه ملاك نور" (2 كو 11: 14). ينشغل بها الإنسان ويطلبها.
إن المسيح إلهنا لم يستجيب لطلب رئيس الكهنة أن يثبت له ذاته بقوات خارج القلوب "فقام رئيس الكهنة وقال له: «أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هذان عليك؟» وأما يسوع فكان ساكتا. فأجاب رئيس الكهنة وقال له: «أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله؟». قال له يسوع: «أنت قلت! وأيضا أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة، وآتيا على سحاب السماء».( متي٢٦).
نعيد القول أن الله هو المطلق في ذاته، لا يعتمد أو يعوزه سواه. لذلك كان إخلاء المسيح إلا من إعلانه ذاته بذاته "أنا هو". القادر علي تغيير كيان كل من يفتح قلبه عند يسمع صوته "أنا هو" ويفتح بابه. لأن قوته هي فيه :
” فأخذ يهوذا الجند وخداما من عند رؤساء الكهنة والفريسيين، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح.4 فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه، وقال لهم: «من تطلبون؟»5 أجابوه: «يسوع الناصري». قال لهم: «أنا هو». وكان يهوذا مسلمه أيضا واقفا معهم. 6 فلما قال لهم: «إني أنا هو»، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض."
وإليك عزيزي القارئ ما قرأته لأحد عظماء آباء الكنيسة سنة ١٩٧٦ يتكلم فيه عن منهج روحانية الصوم في الكنيسة الأرثوذكسية حيث لمحت في كلامه نفس ما شرحته الآن في هذا المقال وتطبيقاً له أننا نصوم لأن الرب فينا وليس لكي نستحضر الرب فينا:
" الصوم في حد ذاته للرب فيه آلام لذيذة طوعية، لكن يستحيل إنها وحدها تكون شركة مع الرب كصوم. ولا تجيب حاجة. ولكن تصيبك بالتعب والدوار والدوخة .
في أيه يعني صوم للساعة 5 ولا حتي الأسبوع كله؟ مكثنا سنيناً وبعضٌ منا كان يصوم الأسبوع كله، وبعضنا الآخر كان يصوم الأثنين والثلاثاء والأربعاء ويفطر الخميس ثم يصوم ثانية الجمعة والسبت. شوفت شوية بيتعبوا زيادة ومش شايف عود شديد قدامي عشان اقوله صوم. العود الشديد مش عافية، ولا جسد، ولا عرق .. لا لا ..
أنا ألمح النعمة… إذا كان إنسان في داخله نعمة ويقول لي عايز اصوم الأسبوع أقوله صومه مخافش عليه لانه هيبقي مسنود من ربنا فلا يمرض، ومسئوليته لا تقع علي أنا. ولكني لا أتجرأ وأعطي تصريح لأحد حتى بيومين علي بعض عندما لا أجد النعمة شغالة فيه بعلامات واضحة أعرفها.
الصوم في حد ذاته لو كان يوم أو يومين أو أسبوع، ولا يجيب حاجة يا أحبائي، إلى أن ينبض القلب نبضة الحب الإلهي فيصير الصوم ذبيحة، يصير الصوم علي مستوي دق المسامير في الجسد.
فتجد النفس فرحانة بالصوم، فرح لا يُنطق به، و تجد الإنسان لا يريد أن يفطر في نهاية الصوم .. ليس لأنه نفسه مصدودة .. لأ.. لأ ... هو شبعان جداً .. رويان جدا .. وفي نهاية الأسبوع يبقي ثقيل عليه أوي أوي انه يفطر ..
فالصوم الطوعي.. والآلام الطوعية، أو الخدمة، أو الشغل، أو الجهد الجسدي وانت صايم، دي مش ممكن تعتبر شركة في آلام المسيح إلا إذا القلب نبض بالحب للمسيح ... ".
وأخيراً أقدم بوست كتبته رداً على تساؤل البعض. وهو يُظهِر بعض مظاهر المغالاة في الصوم التي تسربت إلى مفاهيم البعض في الكنيسة، وربما تتعارض مع منهج الروحانية الأرثوذكسية كما نعرفها:
الرهبنة المسيحية منهج أصيل لقليلين صناعتهم هي الاشتغال بحب الله. ونتيجة لذلك تناقص اتصالهم المادي بالناس في حياتهم. ولكن بتزايد ضعف الرهبنة، تزايد الخلط في المنهج. وقلَّت صناعة الحب الإلهي وبقيت مظاهر النسك كأولوية بينما هي نتيجة. وبالتدريج أنتقل الشكل (النسك) وليس المنهج (الحب الإلهي) إلي حياة الكنيسة خارج الأديرة. وأصبح النسك دليل الحب الإلهي كما في أديان أخري مثل البوذية وربما الفروض في الإسلام. بينما منهج المسيحية هو العكس، أي أن النسك ليس المُنشِئ بل الكاشف للحب الإلهي.
وأنتشر النسك كجهد بشري في استطاعة الإنسان، بينما الحب الإلهي كسبب للنسك هو نعمة إلهية وليس جهد بشري ولكن انتماء روح الإنسان للمسيح "من التصق بالرب فهو روح واحد“. (1 كو 6: 17): هذا ظاهر في قول المسيح الذي يصعب تفسيره عند البعض، بأن قلع العين أسهل من قلع الشهوة من القلب "وإن أعثرتك عينك فاقلعها وألقها عنك. خير لك أن تدخل الحياة أعور من أن تُلقَى في جهنم النار ولك عينان." (مت 18: 9).
وهكذا صار النسك يُستَخدَم كمبارزة لإثبات تفوق دين على آخر في مجتمعنا. فالمسلم كثيراً ما يتعمد تسويق معاناته في صيامه ومن ثمَّة، وبالتدريج وبالمحاكاة، صار المسيحي يتبارى معه بصيامه وتقشفه فيه إلى درجة الامتناع عن العلاقة الحميمية في الزواج.
وصار بعض رجال الدين المسيحي يتبارى في نقل النسك الرهباني إلي شعب كنيسته كعلامة على ورع رجل الدين هذا. إلى درجة أخذ الإذن لممارسة العلاقة الحميمة في الصوم معتبرينها شهوة جسد تُبطِل الصوم. بينما منهج روحانية الصوم شيء آخر كما شرحنا، إضافةً أن الجنس في معناه الإنساني والمسيحي هو نتاج حياة حب وشركة بين الزوجين تُتوَّج بهذا اللقاء الحميمي الذي ربما يوحدهما جسداً واحداً في الحب كما لو كان صلاة....والسُبح لله .